تختصر “تكويعة” وليد جنبلاط الأخيرة، واللقاء بينه وبين قيادة حزب الله، أزمة اللبنانيين مع الحزب. يعرف جنبلاط، ونعرف، أن لا جدوى من أيّ حوار حقيقي مع ميليشيا حزب الله حول الملفّات الرئيسية التي يؤدّي حلّها إلى إعطاء لبنان فرصة جدّيّة لوقف مسار الانهيار الشامل، وعلى رأسها ملفّ السلاح وانخراط حزب الله الميداني في المشروع الإقليمي لإيران. كما يعرف جنبلاط، ونعرف، أنّه، في الوقت نفسه، لا بديل عن الحدّ الأدنى من التواصل مع حزب الله، في مرحلة إدارة الانهيار ومحاولة التخفيف من فظاعاته المتنامية، التي تعرّف اللبنانيون على جانب جديد منها في حادثة احتجاز الرهائن في أحد المصارف بغية “تحرير” شيء من وديعة محتجِز الرهائن!
إن كانت قوى السيادة والوطنية غير قادرة على إيصال رئيس عصري، متّزن وعارف، وهي غير قادرة، فليُترك البلد جمرة بيد ميليشيا حزب الله وحدها، ولتلتهمه النيران التي أشعلها فينا وفي مستقبلنا
إذن، لا جدوى من الحوار، ولا بدل عن الحدّ الأدنى منه. لا أستسيغ الإغراق في القراءة الجيو-استراتيجيّة لموقف وليد جنبلاط وإضفاء ما هو معتاد من أوهام “الأنتينات الجنبلاطية” على التحليل، والذي يجعل الجنبلاطية ممارسة أشبه بعوالم السحر لا السياسة. ولا أستسيغ الإغراق في تصنيف مواقف جنبلاط الأخيرة على أنّها نقطة تحوُّل كبرى ضمن صراعات المحاور واصطفافاتها اللبنانية. فأوّلاً يعرف زعيم المختارة قبل غيره أنّ لبنان ليس في حسابات أحد، حتى يقضي الله أمراً. وثانياً، هي ربّما من المرّات النادرة التي “يكوّع” فيها جنبلاط من موقع قويّ نسبياً في ميزان العلاقة مع حزب الله. لم يفتعل جنبلاط عنوان المعركة الانتخابية الأخيرة التي خاضها على قاعدة محاولة حزب الله عزله وتقليص حجمه وتهميش فعّاليّته السياسية، ولو نجحت مساعي الحزب لما كان من مبرّر عنده للحوار مع جنبلاط اليوم.
هذا الكلام مقدّمة ضرورية لعرض ما هو أخطر، في رأيي، من “التكويعة”.
فالعنوان السياسي الذي لخّص لقاء جنبلاط-حزب الله، هو اتفاق على “رئيس غير استفزازيّ” يخلف الرئيس ميشال عون في بعبدا، وسُوّق له كمكسب سياسي أراه أخطر الأفخاخ التي ستواجه اللبنانيين ما بعد ميشال عون.
إنّ عنوان الرئيس غير الاستفزازي في مقابل فائض الاستفزاز الذي مارسته العونيّة السياسية، عونيّاً وباسيليّاً، ولا تزال، هو تشويه لطبيعة المشكل السياسي في البلد، وتقزيم خطير لمعنى ومضمون هيمنة ميليشيا حزب الله على لبنان.
إنّ حصر الأمور بين خيار الرئيس الاستفزازي ونقيضه، هو توصيف مسلكيّ لمشكل سياسي كبير يطال هويّة لبنان ومستقبله السياسي والاجتماعي والاقتصادي والكياني. لم يكن الاشتباك مع ميشال عون اشتباكاً حول سلوك الرئيس وأركانه، بقدر ما كان السلوك المقزّز هو انعكاس لخيار سياسي يبدأ من نظريّة تحالف الأقلّيّات وصولاً إلى الاندراج شبه التامّ في محور إيران في المنطقة، والإسهام العمليّ في تحويل لبنان إلى قاعدة من قواعد الحرس الثوري، عبر استكمال الإلغاء المنظّم للخطّ الفاصل بين الدولة والميليشيا.
حقيقة الأمر أنّ حزب الله، بعدما حقّقه عبر رئاسة عون، من هدم منظّم للدولة والمجتمع والحياة السياسية وتدمير النموذج الاقتصادي، لا يمانع في انتحال صفة التسوية مع اللبنانيين، عبر ما يسمّى رئيس غير استفزازي، يملك الحزب كلّ أسباب ترويعه وإخضاعه والإمساك بقراره.
في جعبة الحزب أسماء “غير استفزازية”، يمكن تقديمها كأسماء تسوويّة، ترفع عنه تهمة الهيمنة الفجّة على لبنان، وتحرِّره من تحمّل المسؤولية المباشرة عن الانهيار الذي أوصلت سياساته ومواقفه ومشروعه إليه. الأهمّ أن تكون الأسماء “غير الاستفزازية” من تلك التي يستحيل أن تقوم أيّ جسور جدّيّة بينها وبين القوات اللبنانية أو بينها وبين المشروع السياسي للكنيسة المارونية، أو الاثنين معاً. وعليه فإنّ تقديم “درجة الاستفزاز” على “درجة التسييس” كمعيار أهمّ في فحص شخصيّة الرئيس المقبل هو الفخّ الذي سيغطّي حقيقة موقف حزب الله من هويّة هذا الرئيس.
ولو كنت مكان حزب الله لأسعدني أن أرى خصومي يرفعون مفهوم الرئيس غير الاستفزازي إلى مرتبة المطلب الوطني ويجعلونه معيار الانتصار في المعركة الرئاسية، فيما هم في الواقع يمارسون انصياعاً تامّاً وخطيراً لِما يريده الحزب، ولِما يسوقه تحت مسمّى التسوية.
لقد جيء بميشال عون رئيساً بحجّة أنّ الاقتصاد لا يحتمل المزيد من الفراغ السياسي والمؤسّساتي، وأنّ الليرة مهدّدة. وانتهى الأمر بعون رئيساً وبتحقّق كلّ المخاطر التي كان ينبغي لانتخابه أن يلجمها. إنّ بعضاً من هذه الأدبيّات يُعاد إنتاجها اليوم للوصول إلى رئيس “غير استفزازي” سيستكمل عمليّاً، من حيث أراد أو لم يُرِد، مسار الانهيار البادئ مع “العهد الاستفزازي”.
ما يحتاج إليه لبنان هو رئاسة تغيير الاتجاه السياسي العامّ للبلاد، وهو ما ليس ممكناً اليوم في ظلّ توازن القوى الداخلي، وفي ظلّ الضبابية والضياع اللذين يلفّان السياسات الدولية. يستحسن إذذاك، عدم إنقاذ حزب الله من شبهة الهيمنة على لبنان، وتركه يحكم إمّا عبر الفراغ وإمّا عبر إيصال رئيس من أزلامه، لا أن نتوهّم أنّ الوصول إلى رئيس تسوية أمر ممكن بالمعنى الواقعي والحقيقي والكامل لمفهوم التسوية.
حين انتُخب الرئيس الياس سركيس، الذي يستعيد البعض مثاله اليوم، كان ثمّة ما يسند ضعف الرئاسة على الأرض وسط تصارع المشاريع الكبرى في لبنان. كانت الجبهة اللبنانية، في الصف السياديّ، في عزّ فتوّتها، وفوران المارونية السياسية والسلاحيّة في ذروته، وكان التوازن السياسي والعسكري لم يُكسر بعد، في مواجهة تغوّل السلاح الفلسطيني وحلفائه اللبنانيين.
إقرأ أيضاً: 14 سبباً لسقوط الحكّام والأنظمة!
كلّ هذا غير متوفّر الآن. وحدها ميليشيا حزب الله تحتكر فائض السلاح والإسناد الإقليمي، فيما السنّيّة السياسية في أوهن لحظاتها منذ منتصف الثمانينيّات، والحالة القواتية تعوزها الكثير من الجسور مع بقيّة الأفرقاء، وقوى الثورة غير قادرة على تقديم أكثر من صوت أخلاقي، لا تلبث أن تبتلعه أصوات أعلى..
الرئيس غير الاستفزازي هو فخّ خطير، لا وظيفة له إلا إعطاء نَفَس جديد لمشروع حزب الله. إن كانت قوى السيادة والوطنية غير قادرة على إيصال رئيس عصري، متّزن وعارف، وهي غير قادرة، فليُترك البلد جمرة بيد ميليشيا حزب الله وحدها، ولتلتهمه النيران التي أشعلها فينا وفي مستقبلنا..