الخميني النووي بخير… سلمان رشدي بخطر؟

مدة القراءة 7 د

لا تني محنة الثقافة والمثقّفين تتكرّر على وجوه كثيرة. آخرها محاولة قتل الروائي سلمان رشدي كاتب “آيات شيطانية” إحياءً لفتوى أصدرها مرشد الثورة الإسلامية الأول في إيران. وأن تنجح فتوى بعد 34 عاماً في تحقيق ما كان يرومه الإمام الخمينيّ، على الرغم ممّا شهده العالم كلّه من عصرنة، فهذا يدلّ على تجذّر العنف في استخدام الدين، ويستدعي بحثاً أعمق في “أسس العنف” الذي ما زالت تحول دونه السلطات الدينية والسياسية في هذا الشرق الكئيب.

محاولة اغتيال الروائي والكاتب البريطاني تبعث مجدّداً النقاش والسجال الحرّ حول أدوار المثقّفين، ودور الكُتّاب والمفكّرين، في هذه المرحلة الدقيقة من زمن العالم، مع صعود غرائز الهويّات والتطرّف والصراعات القومية في كلّ أصقاع الأرض

حتى الساعة، يتأرجح الكاتب والمفكّر البريطاني سلمان رشدي بين الحياة والموت، و”أخباره غير جيّدة”، على ما صرّح الطبيب المشرف. في الأساس ليس من أخبار جيّدة في العالمين الإسلامي والعربي متى تعلّق الأمر بأحوال الثقافة والمثقّفين. العالمان يفترضان ما ليس فيهما. يزعمان ثقافة فيما الاستبداد متحكّم بكلّ شيء. أصل الاستبداد، جذره، في سلطات دينية وسياسية لا تني تكرّر ماضياً أليماً، على الضدّ من شرط الثقافة الشارط: الحرّية في التفكير والاعتقاد.

سرديّة الفتوى الخمينيّة وما تراكم عليها تستحقّ أن تكون عملاً روائيّاً بسبب سورياليّتها وما حفلت به من نزعات للكراهية والعنف الذي يقارب الكلمة بفوهة المسدّسات وشفرات السكاكين المُسنّنة. الفتوى كانت من طبيعة “نوويّة” لفكر نوويّ يسعى راهناً إلى امتلاك القنبلة. النووي وظيفته الأساس إلغاء أيّ احتمال للحياة والعيش.

أصدر الخميني قرار القتل العمد على اعتبار أنّ الرواية حملت إهانة لنساء النبيّ محمّد (تحديداً السيّدة عائشة)، وأنّ فيها شخصيّة يبدو أنّ صفاتها تنطبق على الخميني نفسه، وأنّ رشدي تناوله شخصيّاً بالنقد والسخرية عبر “شخصيّة يسمّيها الكاتب في الرواية الإمام”. وقد صوّر رشدي هذه الشخصيّة على أنّها تُقيم في الغرب منعّمة، وتخطّط لثورة مناهضة للغرب.

الفتوى لم تكن محصورة بشخص رشدي، بل دعا الخميني إلى قتل كلّ من شارك في إنتاج الرواية ونشرها. هذا التعميم الخمينويّ أدّى إلى قتل مترجم “آيات شيطانية” إلى اليابانية. كما حاول متشدّدون إسلاميون قتل مترجمها إلى التركية وناشرها في النرويج. في الأثناء كان الكاتب يعيش في ظلال “الأمن” حياةً قال عنها هو أنّها مملّة ورتيبة، في حديثه إلى مجلة “الإكسبرس” الفرنسية عام 2015.

“معضلة” الفتوى أنّها تستمرّ ولا تتوقّف إلّا بتنفيذها. حينها يصبح العدوّ مرئيّاً وشاخصاً. والسيّئ أنّ النظم الديمقراطية التي وقفت إلى جانب رشدي ظلّت على علاقة مع نظم لا تُصدر غير الفتاوى ولا ترى إلى العالم إلا أنّه ينقسم بين فسطاطين، وتحديداً إيران ومعها أشباهها من “القاعدة” و”النصرة” و”داعش”.

هكذا استمرّت مفاعيل الفتوى الإيرانية تلاحق رشدي على مدى 34 عاماً. أمس ظهر منفّذٌ لها يحمل بصمات نظام الثورة الإسلامية في إيران الذي أهدر دم الكاتب الفائز بجائزة البوكر عن روايته “أطفال منتصف الليل”.

ارتكز رشدي المتحدّر من أصل هندي كشميري، والذي ولد في 19 حزيران من العام 1947، في الكثير من أعماله الأدبية القصصية، على شبه القارة الهندية. في أسلوبه الأدبي حرص على الجمع والربط بين الواقعية السحرية والخيال التاريخي. ذلك أنّ أعماله العديدة حفلت بمفارقات الاختلالات الحضارية بين الشرق والغرب.

ليس صحيحاً أنّ فتوى الخميني عُلّقت مفاعيلها بعد الهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمي. ففي شباط من العام 2017 سُئل المرشد الأعلى “للنظام الإيراني” السيد علي خامنئي، وعلى موقعه الرسمي، عمّا إذا كانت “الفتوى ضدّ رشدي ما زالت سارية؟”، فردّ قائلاً: “المرسوم كما أصدره الإمام الخميني”.

العالم كلّه شرقاً وغرباً، واجه أزمة الثقافة والمثقّفين. لم تنجُ منها بقعة في العالم جرّاء ارتطام العقل مع “السائد” في كلّ مكان. هذا كان سهلاً، قياساً إلى علانيّته في محاكم التفتيش. المشقّة الأكثر إجهاداً هي في تحوّل المحاكمة إلى نوع من قتل غير مرئي راح يسري في العالم الإسلامي الذي لجأ إلى “التكفير والفتاوى”. معهما تصبح الحيلولة دون مقتلة ما أمراً عسيراً. يكفي أن يُفتي “إمام” ما حتى يصبح ما تفوَّه به شأن الأمة جمعاء.

المتحمّسون للفتاوى لا يمكن إحصاؤهم. جميعهم يتحوّلون إلى قتلة غير مرئيين، خصوصاً متى ألهمهم “الإمام” ووعدهم بالجنّة. هذا حصل في فتوى الإمام الخميني بحقّ رشدي وروايته “آيات شيطانية”. كلّ ما فعله الكاتب المسلم من أصول هندية أنّه عالج موضوعات سياسية ودينية، وهذا ما جعله عدوّاً للدين والأمّة. وقد تعرّض لأكثر من محاولة اغتيال بعد إصدار الفتوى في آب 1989، بواسطة كتاب مفخّخ حاول إيصاله إليه شخص قيل إنّه من “حزب الله” ويدعى مصطفى مازح. لكنّ المحاولة فشلت بسبب انفجار الكتاب في وقت مبكر عن موعده، وقضت على حامله. السوء الإضافي كان في بثّ ونشر موقع “المنار” التابع لـ “حزب الله” خبر محاولة الاغتيال، ضمن خبر طعن رشدي في نيويورك، و”نُفِح” مازح لقب “الشهيد”. حصل هذا فيما حزب الله يُصمّ آذان العالم بأنّه يُحارب “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” وغيرها من أشقّائه وشقيقاته عبر العالم.

المتحمّسون للفتاوى لا يمكن إحصاؤهم. جميعهم يتحوّلون إلى قتلة غير مرئيين، خصوصاً متى ألهمهم “الإمام” ووعدهم بالجنّة. هذا حصل في فتوى الإمام الخميني بحقّ رشدي وروايته “آيات شيطانية”

ولئن انعدم التوافق بين أصوليّي السُنّة وأصوليّي الشيعة على أيّ شيء على امتداد 1500 عام، فقد تقاطعا، لا بل تسابقا، على هذه المقتلة. ذلك أنّ فتوى الخميني لم تكن فريدة في بابها. فقد سبقه إليها علماء مسلمون سُنّة من العالم العربي. لكن كان للأوّل “سحر وثقل” منحاه الصدارة في القول والفعل. ما لم تفهمه الفتاوى ومُفتوها أنّ رواية “آيات شيطانية” تبقى عملاً روائياً محضاً حتى لو استندت إلى تاريخ أو أشخاص في سياقها الأدبي والفنّي.

محاولة اغتيال الروائي والكاتب البريطاني تبعث مجدّداً النقاش والسجال الحرّ حول أدوار المثقّفين، ودور الكُتّاب والمفكّرين، في هذه المرحلة الدقيقة من زمن العالم، مع صعود غرائز الهويّات والتطرّف والصراعات القومية في كلّ أصقاع الأرض. كان حريّاً برشدي، إذا ما أراد العيش، أن يظلّ على تخفّيه، وأن يتعامل مع أزمة الحرّيات بنظرة ماركسية ـ غرامشية: لا بدّ من النظر إلى المستقبل بتشاؤم المثقّف وتفاؤل الإرادة. وحدها الإرادة هزمت النازية والفاشية والسوفياتية. وهي نفسها التي انتصرت لـ “الماغنا كارتا”. ومعها انتصرت الثورة الفرنسية.

هذه الإرادة التي غابت منذ أذاع “راديو طهران” الفتوى بحقّ رشدي، هي ما تساءل عنه الروائي في حديثه إلى مجلّة “الإكسبرس”. كان يعتقد أنّ الحملة الشرسة التي جوبهت بها “آيات شيطانية” والمحنة التي مرّت بها حرّية الرأي والتعبير ستجعلان مساحة الحرّية تربح مساحات كبيرة. “لكن للأسف كان هناك اتّجاه غربي يفضّل التضحية بحرّية الرأي والتعبير والتفكير، وذلك باعتماد توافقات وتراجعات خطيرة. لماذا؟”.

يقول رشدي إنّ هناك رفضاً لفهم أمرين أساسيّين: “الأوّل أنّنا نعيش مرحلة حالكة “”somber غير مسبوقة، حيث إنّ ما يحدث في العالم بعد ظهور التنظيم الإرهابي داعش، أمر جلل وخطير، لأنّ حرّية العالم أصبحت مرهونة ومقيّدة بنزوات وأهواء تنظيمات غير دولتيّة يمكن أن تمسّ أمن واستقرار الشعوب في أيّ مكان وزمان. والأمر الثاني أنّ الإرهابيين يستهدفون المسلمين قبل الغربيين…. الخلط بين الإرهاب والإسلام لا يخدم مصلحة دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والإسلام ضحيّة من ضحايا الإرهاب كما الغرب”.

لا فرق بين العنف والتطرّف منذ صدور “آيات شيطانية”، وحتى على امتداد التاريخ كلّه، قديمه وحديثه. يسع المرء أن يقيس الاثنين بـ “طاعون ألبير كامو” (la peste de CAMUS) أو مسرحيّةRhinoceros” ” لأوجين لونسكو Eugène Ionesco)).

إقرأ أيضاً: إيران تبيع فلسطين… الأوهام فقط

الآن يرقد الروائي البريطاني مع أصوله الإسلامية والهندية في المستشفى ووضعه حرج، لكن يسع كل “أئمة الفتاوى القاتلة” أن يطمئنوا إلى أن أنصارهم ما خيبوا ظنونهم ويعيشون في مواضٍ وكهوف. هكذا فإن الخميني النووي بخير … وسلمان رشدي بخطر. الخطر ليس مقصوراً على الأخير فهو يطال عيشنا جميعاً.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…