كلّما وقعت حرب في غزّة تتّسع المسافة بينها وبين فلسطين. سيُقال المقصود سياسيّاً سلطة رام الله، وسيُقال جغرافيّاً الضفّة الغربية. ولكن أين تقع فلسطين التي امتلأت أحلامنا بها ولا تزال خارطتها تحتلّ مكاناً بارزاً في لاوعي كلّ عربي تهتزّ مشاعره كلّما سمع “أخي جاوز الظالمون المدى”.
هل حقيقة أنّ الحروب في غزّة تذكّر بفلسطين أم أنّها تنفيها؟ المسألة في غزّة صارت تتعلّق بمحاربي الإسلام السياسي أكثر ممّا تتعلّق بفلسطين التي هي ليست قضية جهويّة إذا ما عدنا إلى أصولها. عبر عقود من النضال المسلّح والسياسي لم تتّخذ القضية الفلسطينية طابعاً دينياً. كلّ التنظيمات والجماعات الفلسطينية التي قاتلت ضمن حركة الكفاح الفلسطيني المسلّح لم تكن لها هويّة دينية. منظّمة التحرير الفلسطينية كانت كياناً مدنيّاً، لذلك كانت فلسطين العلمانية واضحة المعالم في أجندتها. يومها كانت فلسطين بعيدة عن اليد، غير أنّها كانت في القلب.
تلك عاطفة لا تدخل في أجندة الإسلام السياسي ولا تمسّ عصباً من أعصابه.
إن قلتَ “فلسطين ليست هناك” سيجرّمك الكثيرون. أمّا إذا قلت “إنّ كلّ شيء يجري على حساب فلسطين”، فإنّك ستكون خائناً للقضية. “أيّة قضيّة؟”، لقد حيّرنا الفلسطينيون. ونحن مسؤولون عن حيرتهم أيضاً. ليست لعبة. كلّ الحماسات التي تُظهرها غالبيّة الفلسطينيّين لحروب غزّة المتتالية، ولا نقول هزائمها، لا تراعي الجانب الإنساني لأهل القطاع المحاصَر منذ سنوات طويلة. ذلك الجانب المتردّي أصلاً يزداد بؤساً وتعاسةً مع كلّ حرب جديدة من غير أن تكون هناك خطوة أمل في اتّجاه إجبار إسرائيل على تفهّم ضرورة اختراق المراحل التي لم يبقَ منها شيء والوصول إلى مرحلة الحلّ النهائي، بمعنى أنّ حروب غزّة بكلّ كوارثها لا تقرّب فلسطين، بل إنّها تبعدها لِما تخلقه من مشكلات جانبيّة مستحدثة.
حرب إسلامية
كلّ حروب غزّة ليس لها معنى على مستوى النضال التحرّري الفلسطيني. فحين تتحوّل غزّة إلى حالة إنسانية تتطلّب شفقة العالم فإنّ ذلك ليس معناه أنّ العالم سيلتفت إلى القضية الفلسطينية، كما أنّه لا أحد من المراسلين الصحافيين سيذكر فلسطين في تقريره عن الحرب. تلك حرب لا هويّة لها سوى الهويّة الإسلامية التي تتباهى بها “حماس”. فإذا كانت “حماس” قد نجحت في إبراز هويّتها فإنّ إسرائيل في المقابل نجحت في أن تُنسي العالم فلسطين. لا أحد يذكر فلسطين في الحروب التي شهدتها غزّة.
كان ضحايا تلك الحروب فلسطينيّين بالتأكيد. ولكنّهم مختطفون من قبل حركة حماس التي اقتطعت مدينتهم من فلسطين.
لم تكن غزّة محظوظة، لا في ظلّ الحماية المصرية ولا في ظلّ الاحتلال ولا في ظلّ السلطة الفلسطينية ولا في ظلّ هيمنة حركة حماس. حرمها الاحتلال جغرافيّاً من أن تكون جزءاً من الوطن الأمّ الذي هو فلسطين. ولكنّ جغرافيا “حماس” هي جغرافيا دينية ستضع ذلك الجزء الضائع من فلسطين في مكان على الخارطة الإسلامية لا يمكن من خلاله الاهتداء إلى فلسطين.
إقرأ أيضاً: اسرائيل أوقعت “الجهاد” في الفخ؟
ليست فلسطين هناك، لا بالنسبة إلى الإسرائيليين الذين يقصفون غزّة ولا بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يعيشون تحت القصف. هذه ليست سوى غزّة. فلسطين بعيدة.
وهكذا تكون التنظيمات الإسلامية، وفي مقدَّمها حركة حماس، قد نجحت من خلال حروبها المتلاحقة أن تستبعد فلسطين لتضع محلّها غزّة باعتبارها موقعاً لكارثة إنسانية تتجدّد بين حين وآخر. فإذا كان الفلسطينيون عاجزين عن ضبط الشرط الإنساني في غزّة، فما الذي سيفعلونه بفلسطين؟ ذلك سؤال جانبي لذلك الجزء من العالم المتعاطف مع الفلسطينيين.
*كاتب عراقي