مذكّرات صائب سلام (5): دكاكين السلاح المسلم والمسيحي والفلسطيني

مدة القراءة 10 د

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من فرسان استقلاله.

أيضاً تصدر المذكرات في زمن استباحة مقام رئاسة الحكومة. وهو الذي كان واحداً من أشدّ رؤساء الحكومات حرصاً عليه وعلى صلاحياته، وهو ما جعله يصطدم بكل رؤساء الجمهورية المتعاقبين ويدخل معهم في منازلات سياسية قاسية من الندّ للندّ.

نظراً إلى الكمّ الهائل من الوقائع الواردة في المذكّرات، نشر “أساس” حلقتين عن الجزء الأوّل، وينشر أربع حلقات عن الجزء الثاني.

في الحلقة الثالثة يروي الرئيس سلام تفاصيل رؤيته لـ”دكاكين التجارة” كما يسمّي الأحزاب والمسلّحة، في الجانب المسلم، كما في الجانب المسيحي، كذلك في الجانب الفلسطيني. ويكشف أنّ أهالي بيروت “كانوا يكرهون الفلسطيني أكثر من الإسرائيلي.. بسبب الممارسات الشاذّة..”.

“إنّ الرأي العام، حتّى وإنْ كان أعزل، هو أقوى من البندقيّة والنار، شرط أنْ يتبلور على أساس محقّ وواضح”.

 صائب سلام.

 

في مواجهة الحركات والجبهات القتالية، كان الرئيس صائب سلام حريصاً على الشرعية وعلى “بعث السياسة من رقادها” عبر إنشاء الجبهات والتجمّعات السياسية. بداية من “جبهة الاتّحاد الوطني” بالشّراكة مع ريمون إدّه، ثمّ “التكتّل النيابي المستقلّ” الذي تعاون فيه مع كامل الأسعد، و”التجمّع الإسلامي”، الذي ضمّ بعض الأعلام في الوسط الإسلامي، والذي قال عنه: “أدّى منذ قيامه إلى غاية مفيدة، حيث إنّه أعاننا على النطق باسم المسلمين أمام كمال جنبلاط والشيوعيّين، وهو على ضعف تركيبته وما فيه من تناقض، أصبح باستمراريّته ذا شأن تجاه الفرقاء”. ويذكر سلام الزيارات التي كان يقوم بها لرشيد كرامي رئيس الحكومة الأخيرة في عهد سليمان فرنجية، وكيف كان يدعمه ويحثّه على الاستمرار وعدم الاستقالة بعكس حلفائه. ثمّ زياراته للرئيس الياس سركيس “من أجل المصلحة الوطنية”، ولرئيس الحكومة سليم الحص “لكي يشعر الجميع بمدى محافظتي على مقام رئاسة الحكومة”، ومن بعده للرئيس شفيق الوزّان، وخاصّة أثناء الحصار الإسرائيلي سنة 1982.

يقول سلام: “رحت أسعى إلى إحياء دور المؤسّسات الحكومية، ولا سيّما الأمنيّة والتموينية منها، إذْ إنّ الشكوى الشعبية كانت قد بلغت حدّها الأقصى في هذا المجال، وارتدّت النقمة بأغلبها على المقاومة الفلسطينية”. ويروي كيف قام ياسر عرفات بتحريض تنظيم “المرابطون” على دخول بيوت السريان في المصيطبة وأخذ رهائن منهم ردّاً على ما حدث في تلّ الزعتر، وكيف تدخّل بالتعاون مع ريمون إدّه لتبديد الاضطراب، وأنّه “عندما اتّصل به (عرفات) أنكر أنْ يكون له ضلع في ذلك تماماً، بل وعد ببذل الجهود لتطويق الحادث”. ثمّ يتطرّق إلى تفاصيل ما جرى في اجتماع التجمّع الإسلامي عقب سقوط مخيم تل الزعتر في شهر آب (1976): “حاول أبو عمّار أنْ يفضح الأمور ويخلطها بعضها ببعض، وكعادتي جرّبت أن أحصر أبو عمّار في قضية واحدة أعتبرها مفتاح العديد من القضايا الأخرى: قضية مساعدتنا في إحياء الإدارات الرسمية. وهنا راح أبو عمّار يتهرّب ويتهرّب، يعِد ويعِد. كلّ هذا زاد من قناعتي بأنّه لا يريد أنْ يساعدنا في ذلك لكي يُبقي سيطرته على كافّة الأمور الأمنية والحياتية. مهما يكن، لن نيأس”.

تراجعت الحركة الوطنية كثيراً أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت الغربية، ولا سيّما بعد إعلان وليد جنبلاط انسحابه منها

في مواجهة “ميني بريجنيف”

يسهب سلام في شرح تفاصيل حواراته الدائمة وشبه اليوميّة مع ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية، وكيف كان يطالبهم باستمرار بـ”إيقاف دعمهم لليسار والشيوعيين والجماعات التخريبية”، وكيف كان ينصحهم بـ”ضرورة توليد الثقة بينهم وبين الجيش اللبناني وضرورة التقارب مع المسيحيّين، ولكنّ أيّ تقارب مثل هذا لا يمكن أنْ يقوم حقّاً وبصورة مفيدة سوى من خلال المسلمين”. وفي مكان آخر يقول سلام: “وما إنْ بدأوا (المقاومة الفلسطينية) بفتح خطوط على القيادات المسيحية، وخصوصاً مع السوريّين، حتّى راحوا يمعنون في معاملتهم الرديئة للشارع الإسلامي”.

ومن جملة ما قاله أمام أبي عمّار والقيادات الفلسطينية أوائل الثمانينيّات: “إنّ المسلم السنّيّ البيروتي أصبح يكرههم أكثر ممّا يكره الإسرائيلي، وذلك بسبب إهمالهم مصلحة المسلمين وتغاضيهم عن مشاعرهم، بل وتحدّيها في كثير من الأحيان بممارسات شاذّة من قِبل المقاومة نفسها وبتغطية ممّن يتلاحم معهم، ممّن يسمّونها القوى الوطنية في لبنان، وهي ليست سوى فريق من ضعاف النفوس، يسيّرها المال منهم ومن بعض الدول العربية، كما تسيّرها سوريا لمصالحها، تهديماً لكيان لبنان، فتغرق في السلب والنهب والقتل والتدمير تحت حجّة النضال الوطني. إنّ رادعنا القومي وعقلانيّتنا تمنعاننا منْ أنْ نقف ونشهّر بهم (المقاومة) علناً كي لا نعطي الحجّة عليهم لإسرائيل، ولا حتّى للجبهة اللبنانية أو لأحد من أخصام الثورة الفلسطينية”. ويقول سلام إنّهم في كلّ مرّة كانوا “يقومون بإبداء التفهّم من قِبلهم والوعود بالإصلاح، ثمّ يتناسوا كلّ شيء”. ويذكر بشيء من الطرافة أنّ “عرفات عندما كان يريد أنْ يشدّد على كذبه يقسم بشرفه العسكري، وهي عادة أصبحت معروفة عنه”.

وكان عرفات والقيادات الفلسطينية قد “مضوا في مشروع تنفيذ خطّتهم مع المجلس السياسي (للحركة الوطنية) والمتمثّل بالإدارة المدنية والأمن الشعبي في بيروت على الرّغم ممّا شرحته لأبي عمّار عن الضرر الذي يخشاه أهل بيروت من تسليم شؤونهم لهذا المجلس الذي يسيطر عليه الشيوعيّون، وخصوصاً في نواحي الأمن والأمور المعيشية (طحين ومحروقات وغيرها)، وفي إدارة المدارس والتربية والدعاية. ومن وراء هذا كلّه كان أقدر الشيوعيين هو الأمين العام محسن إبراهيم، الذي أُطلق عليه اسم “ميني بريجنيف”، والذي وصفه في مكان آخر بـ”المخرّب الشيوعي”.

يكشف سلام عن الجهة التي قامت باغتيال الشيخ أحمد عسّاف في 26 نيسان 1982 عند خروجه من صلاة العشاء: “العقيد لطيف الذي كان يتولّى التحقيق في الاغتيال أخبرني أنّهم ألقوا القبض على صاحب السيارة الجانية، وهو شيوعي، وقال إنّه أعار السيارة لشيوعي آخر اسمه جهاد رعد (شيعي من بعلبك)، وأنّه كان يعرف بأنّ رعد استعملها لتنفيذ الجريمة… التهمة أصبحت ثابتة على الشيوعيّين ومنظّمة العمل الشيوعي، أيْ جماعة محسن إبراهيم، حسب اعترافات صاحب السيارة بالتفصيل، وهذا ما أيّده رئيس الوزراء شفيق الوزّان عند زيارتي له”.

وقد تراجعت الحركة الوطنية كثيراً أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت الغربية، ولا سيّما بعد إعلان وليد جنبلاط انسحابه منها، وهنا يقول سلام: “انطفأت الحركة الوطنية، نعم لم تبقَ حركة وطنية، وجنبلاط ترك الساحة وهو منزوٍ في بيته، أمّا أنا فأستمرّ منفرداً أحارب بإيماني، بعقلي، وما أعطاني الله من سعة الحيلة، حيلة الرجال في وسع التفكير”.

في مواجهة الحركات والجبهات القتالية، كان الرئيس صائب سلام حريصاً على الشرعية وعلى “بعث السياسة من رقادها” عبر إنشاء الجبهات والتجمّعات السياسية. بداية من “جبهة الاتّحاد الوطني” بالشّراكة مع ريمون إدّه، ثمّ “التكتّل النيابي المستقلّ”

السُنّة ليسوا طائفة

يرسم سلام صورة معبّرة للحرب وللأطراف المتحاربة وللأطماع السورية في لبنان: “حَمَلة السلاح من هنا هم أصحاب دكّان تجارة في نظري يحاولون التكلّم باسم الوطنية والمسلمين، وحَمَلة السلاح من هناك مثلهم أيضاً أصحاب دكّان تجارة أخرى، يحاولون التكلّم باسم المسيحيّين وحمايتهم. وكلّ من الاثنين يعيش على الآخر، وعلى الرغم من افتضاح أمرهما من قِبل الجانبين، فالجانبان واقعان تحت وطأة الإرهاب المسلّح، ولا يمكنهما الجهر بما يعبّر عن آرائهما. ومن فوق هاتيْن الدكّانتيْن هناك في يقيني الدكّانة الأكبر، أي دكّانة سوريا التي تقوم على بقاء واستمرار النزاع بين الفريقين، وإلّا فستفقد دورها في لبنان الذي يقوم على حماية كلّ فريق من الآخر، بينما أصبح واضحاً لي ما كنت أردّده من أوّل الطريق، أنّ خطّتهم كانت تهديم بنية لبنان اقتصادياً وبشريّاً وفي كلّ المجالات، ليصبح فريسة سائغة للاستيلاء عليه”.

ولتخريب عمل هذه “الدكاكين”، كان سلام حريصاً على وحدة الصف الإسلامي من خلال إصراره في الاجتماعات الإسلامية على حضور الشيعة والدروز. وقد عارض بشدّة قيام جبهة إسلامية عريضة تضمّ “التجمّع الإسلامي” و”الحركة الوطنية”: “كان أبو عمّار يحاول جهده لإنشاء ما سمّوه “الجبهة العريضة”. غايته أنْ يستعين بها في مجابهته السياسية للسوريّين، لكنّني رفضت وبقيت وسأبقى صامداً لأنّني أدرك أنّ مثل هذا الأمر لا يتطابق مع مصلحة المسلمين. كما أنّني أرفض أنْ يدخلها المجرمون الذين تلوثّت أيديهم بالدماء وأغرقوا البلد بالإرهاب والتخريب، خاصّة (إبراهيم) قليلات ومرابطوه”. واستمرّ في معارضته الشديدة لهذه الجبهة العريضة التي تحوّل الضغط من أجل قيامها من الجانب الفلسطيني إلى الجانب السوري مطلع الثمانينيّات من خلال بعض القيادات الإسلامية، وهو ما حال دون قيامها.

نتيجة وقوفه ضدّ “دكاكين التجارة” وأصحابها، خصوصاً السوريّين، تلقّى سلام الكثير من المعلومات والتحذيرات عن وجود مخطّطات لاغتياله يرويها خلال عدد من الصفحات نذكر واقعة واحدة منها تعتبر الأكثر وضوحاً: “عقب اغتيال رياض طه نقيب الصحافة (23 تموز 1980)، حضر إليّ المفوّض في الأمن العام حسن السبع (وزير الداخلية في حكومتَيْ نجيب ميقاتي الأولى وفؤاد السنيورة الأولى)، ونقل إليّ رسالة من مدير الأمن العام الأمير فاروق أبي اللمع، يقول فيها إنّهم في الأمن العام التقطوا مخابرة تلفونية بين شخص لهجته سورية وآخر لهجته لبنانية، وإنّ الأوّل كان يعاتب الثاني بخصوص “أبو القرنفلة”، وأجاب الثاني بأنّه لمْ يتمكّن من القيام بالمهمّة لأنّ “أبو القرنفلة” يركب يوماً بسيّارة كاديلاك ويوماً بسيّارة هوندا ويوماً آخر بسيّارة سيتروان، فقال له السوري: ولكنّه كثيراً ما يقف على رصيف داره يودّع ضيوفه فيكون مكشوفاً، فلا يجوز التأخير”.

ماليّة صائب سلام

أمّا عن ماليّة الرئيس صائب سلام، والتي قيل عنها الكثير، ومنها تلقّيه أموالاً من بعض الدول العربية، وخصوصاً من بوّابة “جمعية المقاصد”، فقد فنّدها بنفسه على مدى عدّة فصول في الجزأين الأوّل والثاني داحضاً كلّ المزاعم، راوياً الصعوبات الجمّة التي كانت تحيط بعمل المقاصد، وكيف كانت تعاني من عجز مالي دائم، متحدّثاً عن القروض والتسهيلات المصرفية التي كان يستند إليها. ودائماً ما كان تدوينه للمشاريع المقاصدية حافلاً بعاطفة فيّاضة، فقد كانت المقاصد بالنسبة إليه “قطعة من روحي” و”حصن المسلمين الحصين في هذا البلد”، وكان يشعر بالاعتزاز مع كلّ مشروع مقاصدي جديد ينجح في إنجازه. وخلال سنوات الحرب نجح في إنجاز العديد من المشاريع، مثل تطوير المستشفى وإنشاء كلّيّة الطبّ وتطوير المدارس.

إقرأ أيضاً: مذكّرات صائب بيك(4): عن استخفاف “الموارنة” برئاسة الحكومة

وعن ماليّته الخاصّة، ثمّة فقرة عن مشروع الدوحة السكني تختصر الكثير ويقول فيها: “لقد بعت تقريباً جميع القطع التي كانت لنا في المشروع الأساسي، وهي حوالي 121 قطعة، ونحن بصدد بيع ما لنا من أراض في العوالي. وقد أجرى لي تمّام حساباً قبل أيّام، أظهر أنّ مجموع ما بعته إلى اليوم (أوائل الثمانينيّات)، لو كان بقي في حوزتنا إلى هذا التاريخ، لكان ثمنه بحسب الأسعار الحالية يزيد على ستّين أو سبعين مليون ليرة. فأنا منذ عام 1956، أيْ بعد إنجاز المشروع، كنت أبيع بدون توقّف لكلّ طالب، وبالسعر المعروض، إذْ لمْ يكن لدينا أيّ مورد آخر، فكنّا باستمرار نبيع عقارات، فنفي ديناً في البنوك، ونلبّي مصاريفنا، وهي ضخمة ومتزايدة”.

مواضيع ذات صلة

الإصلاحات الدستوريّة: الرئاسة 4 سنوات والرئيس المكلّف يعرض حكومته على البرلمان مباشرة

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (7): هكذا هَدَمَ الخُمينيون “قِلَاعَ السُنّة”

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من…

مذكرات صائب سلام (6): حلف شيعي ماروني ضدّ السنّة منذ 1980.. بمال الخميني

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (4): عن استخفاف “الموارنة” برئاسة الحكومة

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…