مذكّرات صائب سلام (4): عن استخفاف “الموارنة” برئاسة الحكومة

مدة القراءة 8 د

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من فرسان استقلاله.

أيضاً تصدر المذكرات في زمن استباحة مقام رئاسة الحكومة. وهو الذي كان واحداً من أشدّ رؤساء الحكومات حرصاً عليه وعلى صلاحياته، وهو ما جعله يصطدم بكل رؤساء الجمهورية المتعاقبين ويدخل معهم في منازلات سياسية قاسية من الندّ للندّ.

نظراً إلى الكمّ الهائل من الوقائع الواردة في المذكّرات، نشر “أساس” حلقتين عن الجزء الأوّل، وينشر 4 حلقات عن الجزء الثاني، في ثانيها اليوم عرض لرواية صائب بيك عن تفاصيل تظهر كيف أنّ الرؤساء الموارنة لطالما استخفوا برئاسة الحكومة وتلاعبوا بالمسترئسين من بين الوجهاء السنّة.

 

يقدّم الرئيس صائب سلام صورة سوداوية وقاتمة للحالة في لبنان منتصف العام 1974 قائلاً: “كانت موجة الاستياء لا تزال تتصاعد يوماً بعد يوم من رخاوة الحكم إزاء أخبار الفضائح والرشى واستغلال النفوذ وفلتان حبل الأمن وتفكّك الإدارة وعدم مبالاة المسؤولين.. وكانت النقمة كلّها تنصبّ على رأس سليمان فرنجية، وهو غير مبالٍ وغير قادر على تقدير الأمور حقّ قدْرها، وهذا كلّه يذكّرني بآخر أيّام الملك المصري فاروق وبحريق القاهرة”.

أدّى كلّ ذلك في النهاية إلى استقالة حكومة تقيّ الدين الصلح، ومرّة جديدة كان المرشّح الأبرز لرئاسة الحكومة صائب سلام. وفعلاً تمّ تكليف سلام تشكيل حكومة، لكنّه يبدو، وفق ما يروي، وكأنّه يتحدّث عن واقعنا الحالي وعن معاناة الرؤساء المكلّفين مع الرئيس ميشال عون.

يقدّم الرئيس صائب سلام صورة سوداوية وقاتمة للحالة في لبنان منتصف العام 1974 قائلاً: “كانت موجة الاستياء لا تزال تتصاعد يوماً بعد يوم من رخاوة الحكم إزاء أخبار الفضائح والرشى واستغلال النفوذ”

“في 3 تشرين الأول 1974، وبعدما أنهى الرئيس مشاوراته، طلبني إلى القصر وكلّفني فعلاً بتشكيل حكومة جديدة. وخلال حديث طويل بيننا وجدته منفتحاً تماماً متقبّلاً لكافّة الأفكار الجديدة، ولكلّ ما أبديته من آراء”. لكنّ فرنجية عاد بعد ذلك إلى فرض الشروط على سلام، الأمر الذي جعله أقرب إلى الاعتذار، ويقول عن ذلك: “كان يتنازعني عاملان، فمن ناحية كان التساهل مع فرنجية يعني تأليف حكومة لا ترضي الضمير ولا يرضى بها الشعب، وتحمّل المسؤولية الضخمة مع مثل هذه الحكومة والبلاد في الدرك الأسفل من تردّي الأحوال في كلّ نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ومن ناحية ثانية كان ذهني يتّجه إلى الاعتذار عن تشكيل الحكومة. فإنْ كان بيار الجميّل صرّح بنفسه بأنّ 90% من اللبنانيين يريدون حكومة برئاسة صائب سلام، فإنّ معنى هذا أنّني أتحمّل مسؤولية ضميرية ووطنية ضخمة… وانتهى الأمر حين قابلته (فرنجية) بخلاف، وباعتذاري عن تشكيل الحكومة، وكنت شديد السرور بذلك” (بعد ثلاثة أيّام من التكليف).

يبدو سلام وكأنّه يوجّه رسالة من العالم الآخر إلى كلّ الزعماء السُنّة الذين انكفأوا عن الساحة السياسية أو تراودهم الرغبة بذلك، عندما يخبرنا عن تفاصيل اجتماعه بالرئيس رشيد كرامي في فندق “البريستول” في أيلول 1974، لتوحيد جهود المعارضة: “خلال الاجتماع وجدت رشيد كرامي ذاهباً إلى أبعد الحدود في تذمّره ويأسه من سليمان فرنجية لتفرّده بالحكم، إلى درجة أنّه بات يفكّر بالاستقالة من النيابة والاعتزال في بيته. أجبته على الفور بأنّ هذا أسوأ الحلول لأنّنا لا ينبغي أبداً أنْ نلتزم بيوتنا، بل يجب أنْ نقاتل، الكبير قبل الصغير، حين تدعو الحاجة. اتّفقنا على أنْ نتكاتف تجاه سليمان فرنجية وطغيانه مع جماعته، هنا كرّر رشيد كرامي أنّ معارضتنا يجب أنْ تصل إلى حدّ الاستقالة من النيابة، فطلبت منه ألّا يعود إلى ذِكر هذا الأمر على الإطلاق. صحيح أنّني أتّفق معه على ترك النيابة إذا لزم الأمر، ولكنْ في سياق معركة متكاملة، أيْ ليس انهزاماً بل تفجيراً لمعارضة عنيفة”. وفعلاً نشأ الحلف الثلاثي الجديد (سلام، كرامي، ريمون إدّه مع كتلهم النيابية) في مواجهة سليمان فرنجية. وقاد الحلف الثلاثي معارضة عنيفة ضدّ فرنجية، وفي إحدى جلسات مناقشة البيان الوزاري لحكومة رشيد الصلح، وصف ريمون إدّه عهد فرنجية بـ”عهد الحشيشة”.

 

“دكّانة” عبد الناصر وحسرة سلام

على الرّغم من الخلاف مع الرئيس فرنجية، فقد قبل الرئيس صائب سلام مرافقته مع رؤساء الجمهورية والحكومة السابقين ضمن الوفد اللبناني لحضور جلسة الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في تشرين الثاني 1974، وكان فرنجية مكلّفاً من قبل مؤتمر القمّة العربية بإلقاء كلمة العرب.

يروي سلام ماذا قال للرئيس الأسد في لقاء بينهما أواخر العام 1974: “شرحت للرئيس الأسد أوضاع لبنان بصراحة كلّيّة وحدّثته عن وجهة نظري بالنسبة إلى ما يتحمّلونه من مسؤولية في إنهاك القوى الوطنية، مذكّراً كيف أنّ الرئيس جمال عبد الناصر كان قد فتح “الدكّانة” في لبنان على وسعها، فجاء البعث العراقي يأخذ باباً منها، والبعث السوري باباً ثانياً، وليبيا باباً ثالثاً، والشيوعيّون باباً رابعاً وهكذا. وهذا كلّه في المحيط الإسلامي الذي تشتّت بعد أنْ كان مرتكز العروبة والقوميّة العربية في لبنان. وأعدت على مسامع الرئيس الأسد ما كنت أناشد به الرئيس عبد الناصر، بألّا يقوّي الرئيس في لبنان على حساب المسلمين بما يؤدّي إلى إضعاف هؤلاء، فإنْ قضى علينا أو أضعفنا فإنّ العرب لنْ تعود لهم أيّ حصة في لبنان.

يوجّه الرئيس صائب سلام انتقادات قاسية جدّاً إلى الرئيس سليمان فرنجية وأسلوبه في ممارسة الحكم

أهمّ عمل سياسيّ لسلام

يسرد سلام تفاصيل الأحداث التي سبقت الحرب ومهّدت لها، وبخاصّة إصابة نائب صيدا معروف سعد في أواخر شباط 1975: “عندما كان يسير مع نزيه البزري على رأس تظاهرة لصيّادي السمك احتجاجاً على احتكارات يُراد أنْ تُعطى لشركة “بترومين” التي يرأسها كميل شمعون، وهي كانت إحدى المنافع التي منحها الرئيس فرنجية لشمعون مقابل تأييده”. ويتطرّق إلى الاحتكاكات المستمرّة بين الجيش والمدنيّين في صيدا، ثمّ وفاة سعد في 6 آذار والتشييع الضخم والهادئ الذي أُقيم له بفضل ما أشار إليه من “تدخّل المقاومة الفلسطينية وحكمة الأهالي”.

يوجّه الرئيس صائب سلام انتقادات قاسية جدّاً إلى الرئيس سليمان فرنجية وأسلوبه في ممارسة الحكم. منها تصريحه إلى صحيفة “الأنوار” في آذار 1975: “الداء عنده (فرنجية) هو، عقليّته المحدودة والجاهلة والرعناء، وفي الأساليب العشائرية التي يعالج بها الأمور”.

ويتحدّث عن “ما أخذ يتكشّف عند سليمان فرنجية من نوايا سيّئة تُجاه المسلمين عبر استخدامه شخصيات ضعيفة بينهم في رئاسة الحكومة (أمين الحافظ، تقيّ الدين الصلح، رشيد الصلح). بعد ذلك ما تبدّى لديه من نوايا خبيثة لضرب الفلسطينيّين وما رافق ذلك من فلتان حبل الأمن، ومن فوضى الحكم وشيوع الرشى، وما يتداوله الناس في ذلك السياق عن سليمان فرنجية وعائلته، وصولاً إلى توزير ابنه الذي ظلّ طوال سنتين أشبه بسوبر وزير لأنّه كان في الواقع فوق جميع الوزراء، وبات هو مع حاشية القصر الناهين الآمرين في جميع الوزارات في كلّ دوائر الدولة دون حياء أو خجل”.

وعندما استقالت حكومة رشيد الصلح اتّجهت الأنظار كلّها إلى الرئيس سلام، وحاول معه الكثيرون لقبول التكليف، ومنهم الرئيس فرنجية نفسه عبر العديد من الوسطاء، لكنّه فاجأ الجميع بترشيحه للرئيس رشيد كرامي. عن هذا القرار يقول سلام: “قراري هذا أذهل فرنجية، وأرى أنّه أهمّ عمل سياسي قمت به في ذلك الحين، لأنّ ذلك سحب البساط من تحت قدمَيْ فرنجية الذي فتح الصراع على الفور بيننا وبينه واستمات لمنع تكليف كرامي، إلى درجة أنّه عمد إلى تكليف حكومة عسكرية برئاسة نور الدين الرفاعي. لقد أرغمنا فرنجية على كشف كلّ أوراقه، والكشف عن مدى استخفافه بالمسلمين وبالعمل السياسي”.

 

أيّام السبت السوداء

يروي سلام تفاصيل الاضطرابات في بيروت، والفوضى الشديدة وتفشّي أعمال النهب للمحالّ والبيوت، وأنّ “الكتائب” الذين يزعمون انتماءهم إلى الجناح الراقي في المجتمع كانوا البادئين بالسرقات. ويتحدّث أيضاً عن أعمال العنف الوحشية، وخاصّة السبت الأسود.

بعد ذلك يروي حكاية الجلسة التي انعقدت لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وسبقتها ضغوط كبيرة من السوريّين على النواب لانتخاب الياس سركيس: “السبت 8 أيار 1976، كان سبتاً أسود آخر، أكثر سواداً وخطورة من كافة أيام السبت السوداء التي سبقته. لقد حضر جلسة الانتخاب 69 نائباً وتغيّب 29، وكان من المتغيّبين كتلتنا وكتلة ريمون إدّه وكتلة بعلبك. في تلك الجلسة فاز الياس سركيس بـ66 صوتاً، فكان انتصاره وانتصار السوريين كبيراً. أوّل النهار كان الجميع يعتقد أنّ الجلسة لن تُعقد، لكنّ قوى المال من جهة، وتدخّل سوريا (ولا سيّما الصاعقة) من جهة أخرى، بدّلا الأمور. والحقيقة أنّه لولا خذلان السعودية لنا في تلك القضية لتغيّر مجرى التاريخ في لبنان. وكان واضحاً أنّ بعض النواب من المسلمين على عهدنا بهم قد خانوا الرأي العامّ الإسلامي خوفاً أو تكسّباً، لا فرق!

إقرأ أيضاً: مذكّرات صائب بيك (3): الشهابية فسدت.. وفرنجية معادٍ للعرب والمسلمين

كانت غايتنا التي لم نتوصّل إليها من ترشيح ريمون إدّه تخليص لبنان من عقبتين كبيرتين: ممارسات الكتائب ومزاجيّة كمال جنبلاط وتحالفاته، إضافة إلى أنّ إدّه كان يمكنه أنْ يتعاون أفضل تعاون مع أبي عمّار وقيادات المقاومة، ما يضع حدّاً لممارسات متطرّفيها ولا سيّما الصاعقة. لقد أردنا هذا كلّه لكنّنا هُزمنا”.

مواضيع ذات صلة

الإصلاحات الدستوريّة: الرئاسة 4 سنوات والرئيس المكلّف يعرض حكومته على البرلمان مباشرة

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (7): هكذا هَدَمَ الخُمينيون “قِلَاعَ السُنّة”

تزامن صدور مذّكرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته، وفارساً من…

مذكرات صائب سلام (6): حلف شيعي ماروني ضدّ السنّة منذ 1980.. بمال الخميني

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…

مذكّرات صائب سلام (5): دكاكين السلاح المسلم والمسيحي والفلسطيني

تزامن صدور مذكّرات الرئيس الراحل صائب سلام مع أدقّ وأخطر الأزمات التي يعيشها الكيان اللبناني، الذي كان الراحل الكبير واحداً من أبرز رجالاته وفارساً من…