الحرب على غزّة: تحريك إيرانيّ وأضرار على الفلسطينيّين والعرب!

مدة القراءة 8 د

بدأت الحرب على غزّة وانتهت كما بدأت خلال ثلاثة أيّام، والخاسر بالطبع أهل غزّة الذين قُتل منهم حوالى الأربعين، ثلثهم من الأطفال، إضافةً إلى المباني المهدَّمة والرعب العامّ. وقذف المناضلون الأشاوس من الجهاد الإسلامي المستوطنات الإسرائيلية بستمئة صاروخ ومقذوف، ولجأ الإسرائيليون في حزام غزّة إلى الملاجئ، لكنّ أحداً منهم لم يمُت بسبب دفاعات القبّة الحديد.

منذ ثلاثة أشهر، وليس بسبب خبرتي القتالية (!)، كنتُ أنتظر ذلك. فالإيرانيون، وعندهم اليوم زعيم الجهاد الإسلامي وربّما زعيم حماس، يهدّدون ويتوعّدون للضغط من أجل تسريع توقيع الاتفاق النووي مع أميركا. ولأنّ زعيم الحزب المسلَّح في لبنان مهمومٌ بكاريش والحدود البحرية، فقد توقّعت كغيري أن يجري الآن استخدام غزّة ومن طريق حركة الجهاد أو حماس.

إذا كان المقاتلون الفلسطينيون لا يعتبرون الأمر إذلالاً، بل يفخرون به، فإنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أبا مازن، لا يعتبر طرائق تعامل الإسرائيليين والأميركيين معه إذلالاً ومهانة! ويعيِّر الفلسطينيون بعضهم بعضاً بذلك

لقد وجد أنصار المقاومة علّةً طريفةً للحرب الأخيرة وهي أنّ إسرائيل تقوم بها لإفشال المفاوضات النووية الجارية في فيينا! أمّا الهجوم على المسجد الأقصى من جانب المستوطنين فقد وجدوا علّته عند رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتانياهو، الذي يريد إحراج خصمه الرئيس الحالي يائير لابيد قبل الانتخابات. والطرفان ينظران من وراء ذلك إلى انتخابات تشرين الثاني المبكّرة، مجدّداً لمرّة خامسة في إسرائيل خلال 4 أعوام، وما هو التصرّف الأفضل للفوز فيها ولو على جماجم الفلسطينيين.

الطرفان انتصرا

في النهاية يقول الطرفان إنّهما انتصروا: الإسرائيليون لأنّهم قتلوا قادةً عسكريّين مهمّين من الجهاد الإسلامي، أمّا حركة الجهاد فقد انتصرت لأنّها رمت ستمئة مقذوف باتّجاه إسرائيل. ولا حساب عند الإسرائيليين وعند حركة الجهاد للقتلى المدنيين وللإرعاب الذي أصاب الناس ويصيبهم.

لا شكّ في شجاعة المقاتلين الفلسطينيّين. ولا شكّ في وحشيّة “جيش الدفاع” وإجرامه. إنّما ما هي النتيجة أو الخُلاصة من كلّ الذي جرى، بل ويجري منذ عقدين أو ثلاثة على المقاومة الفلسطينية ومع المقاومة الفلسطينية؟ لا أحد يتعلّم من دروس ووقائع الحروب، ولا من أهوال القتل والدمار. لا تغيير في التكتيك ولا في الاستراتيجية. الإسرائيليون يعرفون تماماً ما يقومون به ويستخدمونه بالداخل والخارج. أمّا الجهة الفلسطينية فتخسر كلّ يومٍ ولا تربح أو تعيد النظر في الخطط والاستراتيجيات. والصراع كلّه صار جزءاً من الصراع الإسرائيلي- الإيراني. فحتى هذه الحرب المحدودة ما كانت لتجري لولا الإرادة الإيرانية، والمقاتلون الفلسطينيون يقولون لك عندما تسألهم: “نحن ندافع عن أنفسنا. أمّا الأكثر جرأةً أو وقاحة، لا فرق، فيقولون لك: “ماذا نفعل” فالسلاح إيراني والمال إيراني، ونعم نحن نطلق النار عندما تريد إيران منّا ذلك”.

خلال العامين 2021 و2022 بذل زعيم الحزب المسلَّح في لبنان جهوداً حثيثة لإعادة العلاقات بين حماس والنظام السوري (المقاوم طبعاً!) إلى سابق عهدها. وقد عاد إسماعيل هنيّة في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى الإشادة بإيران وقائد فيلق القدس السابق الجنرال قاسم سليماني، وأخيراً بالحوثيين (نعم الحوثيين) ونظام الأسد. أمّا حركة الجهاد التي دعمت إيران إنشاءها في ثمانينيّات القرن الماضي، فلا تجد حرجاً اليوم في وضع صورة سليماني على حيطانها وراياتها. ومَن لا يعجبه فليضرب رأسه بالحائط!

وإذا كان المقاتلون الفلسطينيون لا يعتبرون الأمر إذلالاً، بل يفخرون به، فإنّ أبا مازن، من جانبه لا يعتبر طرائق تعامل الإسرائيليين والأميركيين معه إذلالاً ومهانة! ويعيِّر الفلسطينيون بعضهم بعضاً بذلك. “المازنيّون” يعيِّرون ميليشيات غزّة المسلّحة بأنّها عناصر إيرانية. والجهاديّون وحركة حماس يعتبرون أبا مازن وحكومته وإدارته عملاء للاحتلال والإمبريالية.

استجداء الوصاية المصرية

بمعنىً من المعاني صار المقاتلون الفلسطينيون ضرورةً للإسرائيليين، كما أنّ العدوانات الإسرائيلية صارت ضرورةً لهذا الفريق من الفلسطينيين. الإسرائيليون يستخدمونهم لكسْب تأييد العالم في مواجهة الإرهاب، واعتبار الحلّ السلميّ مستحيلاً، وللتنافس في الانتخابات. أمّا الفلسطينيون فيستخدمون العدوانات الإسرائيلية للحصول على الدعم الإيراني، الذي من اشتراطاته ليس مواجهة إسرائيل فقط ولأغراض إيرانية، بل ومواجهة “العرب المتخاذلين”، بحسب قولهم. في النهاية هم مضطرّون جميعاً إلى استجداء الوساطة المصرية لوقف النار كما حصل دائماً ويحصل خلال هذين اليومين.

هناك مسؤوليّتان، إحداهما على الفلسطينيين، والثانية على العرب. والمسؤولية على الفلسطينيين هي على الفريقين، المقاتل والمسالم. المقاتل لأنّه يدأب منذ عقود على استخدام الأسلوب ذاته الذي لا يجلب غير الدم والخراب. وقد كان بالإمكان استخدام هذه الطاقات الحيّة بأساليب أخرى أكثر فائدة وإنسانية.

المسؤولية أيضاً وأيضاً على المقاتل الفلسطيني لأنّه يعمل وهو يُنشِبُ الحرب المدمِّرة له ولأهله من أجل إيران في صراعها على مصالحها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإسرائيل. أمّا مسؤولية أبي مازن فلأنّ سلامه لا حدود ولا آفاق له. لقد تعوّد الإسرائيليون والأميركيون على هذا التعامل الصبور إلى أبعد الحدود. وإذا قيل: “إذا تمرّد ازدادت الضغوط وتعذّرت الحياة في الضفّة”، فأنا أقول: “لماذا لا؟ حتى لو دخلنا في معاناة تشبه معاناة الروهينغا، لماذا لا تصبح الأزمة أزمةً عالمية؟! لا بدّ من استعادة اهتمام العالم بفلسطين واحتلالها، وهو الأمر الذي لا يستطيعه المقاتلون، بل تستطيعه الإدارة الفلسطينية مدعومةً بالعرب”.

لمقاومة عربية ضدّ إسقاط الدول

أما المسؤوليّة العربية فتبدأ بفلسطين، لكنّها تتجاوزها. فهناك اليوم ميليشيات إيرانية أو جيوش تركية وروسية وأميركية، في عدّة دولٍ عربية. إيران تحاول إيجاد ميليشيا حيث تقدر (لقد حاولت ذلك حتى في البحرين والكويت كما هو معروف). وقد كان “المظنون” أنّ ولاية الفقيه تدعم الميليشيات الشيعية في البلاد العربية لزيادة نفوذ الشيعة في بلدانهم. لكنّ التجربة اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية تشير إلى أنّ المراد هو الاستيلاء، فإن لم يمكن فالتخريب أو التقسيم. ولذلك كلّ بلدان المشرق العربي مستهدَفة حتى لو لم يكن فيها شيعة. فها هما تنظيما الجهاد وحماس يعملان عند إيران على الرغم من أنّهما سنّيّان. ولذلك لا بدّ من مقاومةٍ عربية لعمليات إسقاط الدول أو تقسيمها أو لا تنجو سلطةٌ إلاّ بالخضوع أو الإخضاع.

ثمّ لماذا لا نفكّر في إمكانياتٍ أُخرى على الرغم من قرارات السيادة ونزع سلاح الميليشيات؟ ماذا يضرّ إسرائيل وأميركا، وكما اعترفتا بالسيطرة المذهبية في العراق وسورية، إذا تفاوضتا مع إيران وميليشياتها في بلداننا على حكم تلك البلدان مقابل حماية حدود إسرائيل؟! لماذا الإصرار على دولة الطائف والجيش إذا كان حزب الله يستطيع القيام بوظائفهما ويرابط، كما يفعل الآن، على حدود الدولة العبرية؟!

إلى جانب إمكانية حلول الميليشيات الإيرانية محلَّ السلطات القائمة كما حصل في العراق ويحصل في سورية واليمن، ربّما يحدث الاحتمال الآخر: التقسيم! وهذا احتمالٌ يلوح في الأفق أيضاً في فلسطين واليمن: إذا تعذّر الخلاص من المقاومات الفاشلة مثل الحوثيين و”الجهاد” و”حماس”، فلماذا لا تنقسم الـ 20% الباقية من أرض فلسطين إلى كيانين منقوصَيْ السيادة لكنّهما متنازعان فيما بينهما وإسرائيل آمنة؟ وفي اليمن ها هو التقسيم يحصل على الأرض وسط الهُدن المتعاقبة التي لا يخضع الحوثيون لشروطها ولا يطالب الرئيس الأميركي في بيانه الأخير إلا بالحرّية لمطار صنعاء وميناء الحديدة، بينما لا يذكر شيئاً عن حصار مدينة تعز ثاني أكبر مدن اليمن!

لقد كنّا في حديثٍ وصرنا في حديثٍ آخر: إمّا أن تسيطر الميليشيات (وهي في الأغلب إيرانية) على البلدان، أو يحلّ الانقسام بحسب الأمر الواقع.

إقرأ أيضاً: مَن “تبهدل” أكثر.. رئاسة الجمهورية أم رئاسة الحكومة؟

لا بدّ من اهتمامٍ عربيّ بهذا الواقع أو هذه الوقائع التي تستمرّ من سنواتٍ وسنوات، فتصبح أمراً واقعاً: الاستيلاء الذي يضطرّ المواطنون حتى لا يهلكوا إلى التسليم به، ثمّ يعترف به المسيطرون في المجال الدولي، وإن تعذّر الاستيلاء الكامل فليكن التقسيم هو البديل المتاح.

نحن نظنّ أنّ حروب غزّة استثناء. لكنّ الواقع أنّ حروباً مثلها حصلت وتحصل في العراق وسورية ولبنان واليمن.. وليبيا!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…