وُصِفت أميركا بأنّها “عرّابة” التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وذلك منذ استيلاء إدارة بيل كلينتون على نتائج اتفاق أوسلو، ونقل الاحتفالات بها إلى حدائق البيت الأبيض، حيث الصورة التاريخية لياسر عرفات وهو يصافح إسحق رابين، ومحمود عباس وشيمون بيريز وهما يضعان توقيعَيْهما على “الاتفاق التاريخي”.
منذ ذلك اليوم الاحتفالي الزاهر وإلى أجل مسمّى ظلّت أميركا على تماس يوميّ مع تطوّرات العملية السياسية الفلسطينية الإسرائيلية، توفّر لها إمكانيات الاستمرار والتقدّم، وتزيل من طريقها الألغام لتسير عربتها بأمان نحو المحطة الأخيرة المسمّاة بـ”التسوية النهائيّة”.
نفضت إدارة بايدن يدها من المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وإذا ما استبدلت بإدارة جمهورية على صورة إدارة دونالد ترامب أو من هو أسوأ منه فصفقة القرن ستعود الى الطاولة
أدّت الإدارتان الديمقراطية والجمهورية فعّاليّتين من العيار الثقيل لإنقاذ “المشروع التاريخي” من الانهيار:
– الأولى على يد الرئيس بيل كلينتون، المسمّاة بـ”كامب ديفيد” الثانية في عام 2000، وكان أن فشلت. بل حوّلت الآمال إلى عكسها، بحيث اندلعت الانتفاضة الفلسطينية المسلّحة وتحوّل “المشروع التاريخي” إلى مستنبت لحالة حرب أكثر شراسة من كلّ ما سبقها.
– الثانية كانت على يد الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، الذي ابتدع مؤتمر أنابوليس الدولي في عام 2007. الذي مؤتمر لم يفشل فقط في إحراز أيّ تقدّم على مسار “المشروع التاريخي”، بل أنتج طلاقاً أميركياً بائناً للمشروع برمّته، فتواصل التدهور حتى يومنا هذا.
حين زار الرئيس جو بايدن إسرائيل والسلطة منتصف تموز الجاري، أعلن بصورة جليّة أنّ الولايات المتحدة لم تعد عرّابة التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، بل أضحت “عرّابة اللاتسوية”. وإذا كان أبو مازن استصرخه قبل الزيارة بأيام قائلاً إنّ للصبر حدوداً، فقد ردّ عليه بايدن بقول صريح جدّاً: “بما أنّ الدولة الفلسطينية لن تقوم لا على المدى البعيد ولا الأبعد، فعليك أن تتعامل مع الصبر على أنّه لا حدود له”.
المحصّلة أنّ إدارة بايدن نفضت يدها من المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وإذا ما استبدلت بإدارة جمهورية على صورة إدارة دونالد ترامب أو من هو أسوأ منه فصفقة القرن ستعود الى الطاولة، سواء كان على رأس إسرائيل بنيامين نتانياهو واضعها، أو يائير لابيد أو بيني غانتس.
الموقّعون على العرائض الإصلاحية أو الجذرية هم ذاتهم من سكان الطبقة السياسية الفلسطينية، نقابيون، فصائليون موالون ومعارضون، كتّاب وصحافيون ساخطون، وقد جفّت أقلامهم من كثرة التوقيع على عرائض مماثلة ليس في اللغة وإنّما في المآل
الفراغ الأميركي الكبير
حين تدير الولايات المتحدة ظهرها للمسار الفلسطيني الإسرائيلي فلا مناصّ من نشوء فراغ كبير بحجم الولايات المتحدة ونفوذها على جانبَيْ التسوية الفلسطيني والإسرائيلي. الفراغ على الجانب الفلسطيني له مسوّغ منطقي. فالسلطة السلمية وضعت كلّ رصيدها في الجيب الأميركي ورديفه العاجز الأوروبي، أمّا السلطة المحارِبة فوضعت كلّ أدبيّاتها في الهجوم على أميركا ورهان السلطة السلمية عليها، من دون الإتيان بحليف بديل مقنع. وحين تكون أميركا هكذا في الحياة الفلسطينية بشقّيها، فالفراغ يتّسع والشعور بالإحباط يستبدّ.
بعد دقائق من خطاب محمود عباس اليائس في بيت لحم ساد صمت مطبق على الحالة الفلسطينية وغابت عن أدبيّاتها عبارات التهديد والوعيد بقلب الطاولة من دون أن يُشار صراحة إلى احتمال أن تُقلب الطاولة على رأس الفلسطينيّين وليس على رأس أميركا والعالم. وأُعيدت إلى الأرشيف، حيث مكانها الدائم، قراراتُ المجلس المركزي التي صارت المستند الاستراتيجي الوحيد للسلطة في مواجهتها للتمادي الإسرائيلي. واستُعيض عن خذلان بايدن بزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الرجل المحبّ للعدالة والقليل الفاعليّة في فرضها.
في فراغ كهذا تعود إلى الظهور وعلى نطاق واسع عرائض تُطرَح للتوقيع وتتضمّن اجتهادات متباينة في اختيار الطرق المفضية إلى الخروج من حالة الفراغ، إلا أنّها تتّحد في رفض الواقع الراهن وتعد بتغييره جذريّاً.
الموقّعون على العرائض الإصلاحية أو الجذرية هم ذاتهم من سكان الطبقة السياسية الفلسطينية، نقابيون، فصائليون موالون ومعارضون، كتّاب وصحافيون ساخطون، وقد جفّت أقلامهم من كثرة التوقيع على عرائض مماثلة ليس في اللغة وإنّما في المآل.
إقرأ أيضاً: إسرائيل تستنفر.. وتعرض “تقاسم” الأرباح حول الخطّ 23
الفراغ الفلسطيني أنتجته الطبقة السياسية الخالدة المخلّدة بشقّيها: “السلميّ المساوم”، كما يوصف في أدبيّات منافسيه، و”الحربيّ المغامر”، كما يوصف في أدبيّات المعترضين عليه، ولكلٍّ من الشقّين صلة بالسلطة في الضفّة وغزّة، فهي المموّل الرئيسي بطريقة أو بأخرى.
حالة تشبه مسرح اللامعقول تجري فصولها على أرض أضيق من خرم إبرة من مساحة الكون، ولكلّ من القوى الأكبر اللاعبة فيه دور في ما يجري بحيث يتّفق الكبار على أنّ الوضع الراهن هو الأفضل والأقلّ كلفة، ولا بأس من أن يواصل الفلسطينيون انقسامهم على هذا.