أهل القانون: ملفّ المطران الحاج سياسيّ ونقطة على السطر..

مدة القراءة 8 د

في الأول من تموز الماضي، غرّد الكاتب جان عزيز عن “ملفّ يُختلَق قضائياً ضدّ شخصية روحية بعيدة كليّاً عن الإعلام والسجالات: كمان إثارة الغرائز لإلهاء الناس عن جرائم العصابة، الضغط على مرجعية روحية بتوقيت معيّن، يطلع الدجال اللي ركّب الملف يوقفوا ويعمل بطل… إذا بعد حدا عندو ذرة أخلاق أو ضمير بالمنظومة، ينصحن بلاها عيب”… ليتبيّن في ما بعد أنّ المقصود بالتغريدة هو النائب البطريركي العامّ على أبرشية القدس وراعي أبرشية حيفا والأراضي المقدّسة المطران موسى الحاج.

بعد أسبوعين فهم اللبنانيون مغزى هذه التغريدة: قصف بكركي بتوقيف مطران وبتهمة بالغة الخطورة: العمالة لإسرائيل.

عزيز أوحى، بتغريدته، بوجود طرف يصبّ الزيت على نار الانهيار الشامل في لبنان، من خلال الدفع باتجاه الاستثمار في الفراغ الحاصل على المستوى السياسي، بإحداث المزيد من الفوضى، وبتأجيج نار الانقسام المسيحي – الإسلامي هذه المرّة. والهدف هو الاستثمار في ملفّات عديدة، أبرزها انتخابات رئاسة الجمهورية وموقف بكركي منها. وهي طريقة للضغط على الصرح البطريركي في مسألة رفضه رئيس لا يقف على مسافة واحدة من الجميع، وبالطبع لمنع بكركي من استمرارها في مشروع “الحياد الإيجابي”.

ثمّة سجالاً قانونياً في صلاحية المحكمة العسكرية لملاحقة المطران الحاج، بمعزل عن الخلاف الحاصل على توصيف “التهمة” “عملاً إنسانياً”، كما ترى بكركي

على خطّ بكركي، تتمسّك البطريركية المارونية بموقفها الرافض للمسار القضائي الذي فرضه مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي عقيقي في ما خصّ المطران الحاج. وخرج البطريرك المارونيّ بشارة الرّاعي أمس عن صمته ليشير إلى أنَّ “ما قام به المطران الحاج هو عمل إنسانيّ”، مضيفاً أنّ “هناك لبنانيّين موجودين في الأراضي المقدّسة، لهم دورٌ وحضورٌ ورسالةٌ بمعزلٍ عن السياسة الإسرائيليّة اليهودية”، مؤكّداً: “قالوا إنَّنا عملاء لكنّنا لن نتخلَّى عن قلبنا ونرفض القلب الحجر”.

لكنّ ثمّة سجالاً قانونياً في صلاحية المحكمة العسكرية لملاحقة المطران الحاج، بمعزل عن الخلاف الحاصل على توصيف “التهمة” “عملاً إنسانياً”، كما ترى بكركي، أو “نقل أموال من دولة عدوّة يمكن أن يكون ذا طابع أمنيّ”، كما حذّر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي غرّد معتبراً أنّه “أيّاً كانت الملابسات وراء توقيف المطران موسى الحاج إلّا أنّ من المفيد التنبيه إلى أنّ المعالجة الهادئة أفضل من هذا الضجيج، وأنّ احترام المؤسّسات في هذا الظرف الصعب فوق كلّ اعتبار”، مؤكّداً “رفضه الاستغلال الإسرائيلي لمقام رجال الدين في محاولة تهريب الأموال لمآرب سياسية”.

ينطلق هذا السجال، الذي بلغ حدّاً مرتفعاً من الخلاف والتناقض، من القرار الصادر عن قاضي التحقيق العسكري بالإنابة القاضي فادي صوان، بتاريخ 5 أيّار 2022، بعدم اختصاص المحكمة بمحاكمة المطران موسى الحاج، وذلك استناداً إلى القانون 1060 بند 2 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الصادرة عن الفاتيكان سنة 1990 والنافذة في لبنان منذ 1991 التي تمنح، حصراً، قداسة البابا في الفاتيكان حقّ محاكمة الأساقفة الملاحَقين بقضايا جزائية.

 

بول مرقص:

رئيس مؤسسة “جوستيسيا” الحقوقية المحامي الدكتور بول مرقص غرّد معتبراً أنّ التحقيق مع المطران الحاج يطرح مجدّداً موضوع إعادة النظر بصلاحيات المحكمة العسكرية وقضاتها، وأنّ مؤسسة “جوستيسيا” سبق لها أن وضعت بالتعاون مع مؤسسة Konrad Adenauer الألمانية الحلول لحصر صلاحياتها بالجرائم العسكرية والعسكريين فقط حرصاً على عدم إقحام الجيش في ما يصرفه عن مهامّه.

يقول مرقص لـ”أساس” إنّه على الرغم من صفته الاستثنائية، يتمتّع القضاء العسكري في لبنان بصلاحيات واسعة جداً تستوجب إعادة النظر فيها من ناحيتين:

– الأولى: محاكمة المدنيين أمامه.

– الثانية: عدم توافقه مع شروط المحاكمة العادلة لجهة الشفافية (أي حقوق الدفاع وتعليل الأحكام وعلانية المحاكمات)، الاختصاص، الاستقلالية، الحيادية والمساواة بين المواطنين.

ويلفت مرقص إلى أنّه تمّ التوصّل في الدراسة الموضوعة إلى اقتراح مشروع رؤية متكاملة للقضاء العسكري النموذجي في لبنان، بحيث توفّر للمتقاضين الحقّ بقضاء مستقلّ ومحايد، وتضمن لهم المحاكمة العادلة لجهة تكريس حقوق الادّعاء الشخصي ووجاهية المحاكمات، مع احترام حقوق الدفاع وما يتضمّنه ذلك من ضرورات تعليل الحكم.

ويخلص إلى القول إنّه “لو يؤخذ بمضمون الدراسة وباقتراحات قوانين كالتي تقدّم بها النائب سامي الجميل لحصر صلاحيات المحكمة العسكرية وأخرى لتنظيم عودة اللاجئين إلى اسرائيل لكنّا اليوم في غنى عن هذا النقاش، فالموضوع محصور بهاتين الإشكاليّتين وليس في جواز التحقيق مع رجال الدين، الأمر الذي يأخذ إلى مكان آخر غير حميد”.

هكذا يأخذ مرقص المسألة إلى جانب تقني قانوني، لكنّه مليء بالسياسة. فموضوع اللبنانيين في إسرائيل سياسي، وملف “القضاء العسكري” وتدخّله في الحياة المدنية، هو ملفّ سياسي بامتياز. لأنّه ترعرع في فترة الوصاية السورية، وأزهر أكثر في فترة الاحتلال الإيراني، وتستعمله السلطة و”الدولة العميقة” في لبنان، لتصفية الحسابات. وليس أدلّ على ذلك من ملفّ العميل عامر الفاخوري، الذي “هرّبه” القضاء العسكري، بموافقة “الحزب الحاكم”، خارج لبنان، في صفقة لم تتّضح معالمها بعد. وهو القضاء الذي استخدم من أجل النيل من مجموعات طائفية، ليس أكثر فضائحية ملفّ أحمد الأسير وأشباهه

هي مسألة سياسية، والهدف منها بكركي ودورها. والقانونيون، الذين يحاولون البحث عن احتمالات عدم التسييس، لا يجدون، كيفما التفتوا، غير الكيدية المذهبية والسياسية

رشيد درباس: المسألة سياسيّة

الوزير السابق رشيد درباس يضع ما جرى “في سياقه العامّ من دون اجتزائه من أيّ سياق، لأنّ المسألة تدلّ على أنّها بنت غير شرعية لمسألة سياسية، لأنّه إذا أراد القاضي تطبيق النص القانوني بحرفيّته لجهة نقل الأموال من دولة العدوّ، فهذا الفعل ليس مفرداً في سياقه، بل في سياق عمره 15 عاماً يحصل تحت بصر الجهات الأمنيّة وعلمها ومن دون أن تتحرّك الجهات القضائية. وهو ما يعني أنّ ما حصل هو بمنزلة رسالة سياسية مشفّرة، وقد عبّر البطريرك الماروني أمامي بأنّه لن يستقبل أيّ رسائل في بريد ملتوٍ”.

ويذكّر درباس بأنّ مساراً كهذا “معروف أنّه يتمّ برعاية الكرسي البابوي، وهذا يعني أنّ المسألة تتعدّى السياق الإنساني والمسّ بالأمن الوطني، وهو ما يقتضي تدخّلاً من السلطات العليا مع بكركي لوضع إطار مقبول يقونن هذه العملية. ولكن أن تصبح المسألة ملاحقة جزائية مخالِفة لقانون المقاطعة، فهو يعني أنّها أزمة سياسية مفتعلة في غير زمانها، لأنّ ما تبقّى من مقوّمات الدولة لا يحتمل مغامرات من هذا النوع”.

ويدعو الوزير السابق ونقيب محامي الشمال سابقاً، “الجهات القضائية الحريصة على تطبيق النصّ الحرفيّ للقانون أن تطبّق النصّ القانوني في مسألة تحليق المسيّرات بشكل مخالف لأبسط قواعد السيادة الوطنية”، وهو ما يقوده إلى القول: “إذا عطفنا هذه القضية على قضية أحداث الشيّاح، لوجدنا أنّ القاضي المعنيّ يطبّق القانون على جهة واحدة، وهذا مدعاة لأن تسارع الدولة لوضع الأمور في نصابها وترتيب مسألة نقل الأموال”.

 

الهدف من الملفّ

ويشير القانونيّ إلى “تباين كبير في صفوف المحكمة العسكرية بما هي وحدة قضائية، وهذه هي الخطورة بحدّ ذاتها، الأمر الذي يقود إلى طرح علامات استفهام عن الأهداف الحقيقية التي تكمن وراء خطوة القاضي عقيقي، وهو المتيقّن أنّه حتى لو حصل الادّعاء بحقّ المطران فإنّ القاضي صوان سيعود إلى قراره المتّخذ بعدم صلاحية المحكمة العسكرية. إذاً ما الحكمة من إثارة هذه البلبلة، خصوصاً أنّ الإقدام على هذا العمل لا يقتصر على العمل بحدّ ذاته، بل يتعدّاه إلى التداعيات التي يسبّبها وقد بلغت تردّداتها الفاتيكان، وكأنّ هناك من يتقصّد صبّ الزيت على النار لإثارة المزيد من الأزمات الوطنية؟”.

ويؤكّد أنّ “حصول الواقعة بالجرم المشهود لا يعطي المحكمة العسكرية صلاحيّة الملاحقة لأنّ قرار القاضي صوان واضح لا لبس فيه. وفي نهاية المطاف يجب تقييم إنتاجية العمل، خصوصاً أنّه سيواجَه بقرار مناقض، فضلاً عن أنّ أضرار تفاعلاته أكبر وأكثر من أيّ نتيجة كانت ستتحقّق”.

هي مسألة سياسية، من ألفها إلى يائها، والهدف منها بكركي ودورها. والقانونيون، الذين يحاولون البحث عن احتمالات عدم التسييس، لا يجدون، كيفما التفتوا، غير الكيدية المذهبية والسياسية.

إقرأ أيضاً: الطغاة يحاولون “تأديب” بكركي: إقرأوا التاريخ

بدوره، يقول أحد القانونيين البارزين، طالباً عدم نشر اسمه، إنّ “النقطة الأساسية ليست في تحديد المحكمة الصالحة، لأنّ هذا الجدل يؤدّي إلى حرف النقاش عن مساره وإبعاد الضوء عن المشكلة الأساس. لكنّ الأكيد هو أنّ المحكمة العسكرية ليست ذات اختصاص أو صاحبة صلاحية في ملاحقة المطران، بتأكيد قرار القاضي فادي صوان الذي صدر قبل شهرين فقط وبحقّ الشخص نفسه”.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…