لم يكن الشرق الأوسط وحده مسرحاً للصراع ضدّ التطرّف الديني. فمنذ أن وجدت الكنائس الإنجيلية الأميركية طريقها إلى أميركا الجنوبية، أصبحت هذه القارّة من المكسيك شمالاً حتى الأرجنتين في أقصى الجنوب، مسرحاً لصراع دينيّ أشدّ حدّة، لكن أقلّ دمويّة.
من هنا فإنّ العالم يسشهد معركة بين المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية المعتدلة، وبين هذه الكنائس الإنجيلية الأميركية المتطرّفة. هي الوجه الآخر من المعركة في بلادنا بين التطرّف والاعتدال. بل قل هي معركة أخلاقية عامّة بين الحقّ والباطل.
من هنا وقفت المرجعيّات الإسلامية إلى جانب الفاتيكان، وإسطنبول (البطريرك بارثالوميو)، وموسكو (البطريرك ألكسي)، في مواجهتها سوء توظيف الدين من الشرق الأوسط إلى أميركا الجنوبية).
تمكّنت الكنائس الإنجيلية من اختراق القارّة الأميركية الجنوبية التي تُعتبر خزّان الكاثوليكية في العالم
الكنائس الإنجيلية الأميركية المتطرّفة تقف إلى جانب إسرائيل وتوافق على دعوتها إلى هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل اليهودي مكانه، باعتبار أنّ المسيح لن يعود إلا إلى مجتمع يهودي كما حدث في المرّة الأولى. ولن يعلن عن نفسه إلا داخل الهيكل اليهودي، كما فعل في المرّة الأولى أيضاً.
حروب أميركا الجنوبية
تمكّنت الكنائس الإنجيلية من اختراق القارّة الأميركية الجنوبية التي تُعتبر خزّان الكاثوليكية في العالم، وتغلغلت فيها حتى تمكّنت من تغيير الواقع الديمغرافي – الديني تغييراً عميقاً. حاول البابا الحالي فرنسيس، وهو المتحدّر أصلاً من إحدى دولها الأرجنتين، التصدّي أيضاً لهذه الحملة، لكن من دون جدوى حتى الآن. ذلك أنّ الفقر المدقع في معظم دول القارّة يشكّل مدخلاً واسعاً أمام هذه الكنائس الأميركية الغنيّة والسخيّة في تقديم المساعدات المادّية مرفقةً مع الوعود الدينية الإغرائية.
تبيّن آخر دراسة إحصائية أُجريت في عام 2014 أنّ 69 في المئة فقط من شعوب أميركا الجنوبية يدينون اليوم بالكاثوليكية (كانت هذه النسبة تصل إلى 85 في المئة قبل عقود ثلاثة)، وأنّ نسبة الإنجيليّين فيها ارتفعت إلى 20 في المئة. وفي البرازيل وحدها وصلت نسبة الارتفاع إلى 26 في المئة. والرئيس البرازيلي الحالي جايير بولسونارو هو واحد منهم بعدما تحوّل من الكاثوليكية إلى الإنجيلية (العنصرة)، وقام بزيارة لإسرائيل حتى يتمّ تعميده من جديد بواسطة أحد قساوسة الكنيسة في مياه نهر الأردن. أمّا في دول أميركا الوسطى (وهي الدول الأشدّ فقراً) فقد وصلت نسبة المتحوّلين إلى الإنجيلية إلى 40 في المئة.
لا تقتصر القضيّة على التغيير الديمغرافي وحسب. فالكنيسة الإنجيلية الأكثر توسّعاً هي كنيسة العنصرة، وهي من أشدّ الكنائس الإنجيلية تطرّفاً. وتعتمد الترجمة الحرفيّة للكتاب المقدّس وتقوِّله ما لم تقُل به الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، وحتى الكنائس الإنجيلية الأخرى، وهو ما تعتبره الكنيسة الكاثوليكية نوعاً من التحريف الديني.
الكنائس الإنجيلية الأميركية المتطرّفة تقف إلى جانب إسرائيل وتوافق على دعوتها إلى هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل اليهودي مكانه
دولة مسيحية “يهودية”؟
ترفع هذه الحركة الدينية المتشدّدة شعارات تندّد بالدولة المدنية. وتطالب بدولة دينية إنجيلية. وتدعو كما حدث في بوليفيا مثلاً إلى اعتبار الإنجيل هو الدستور والمصدر الوحيد للتشريع القانوني لأنّه نصّ إلهي لتنظيم حياة البشر.
كان الرؤساء السابقون يحلفون اليمين على الدستور. أصبحوا يحلفون اليمين على نسخة كبيرة من الإنجيل، إضافة إلى صليب كبير. وتجري الآن إعادة النظر مرّة جديدة في الدستور الذي كان قد جرى تعديله آخر مرّة في عام 2009 ليتوافق مع مقتضيات هذا الإيمان الجديد.
تقوم مؤسسة دينية أميركية (هي مؤسّسة “كبار الرسل”) بتنفيذ مشروع لإقامة مراكز لدراسة الإنجيل في المجالس النيابية لكلّ دولة في العالم، انطلاقاً من برلمانات دول أميركا الجنوبية. وقد أنشأت هذه المؤسسة حتى الآن ثمانية مراكز في ثماني دول. وتركّز هذه البعثات التبشيرية الإنجيلية اهتماماتها على مناطق السكّان الأصليين المنعزلين في المناطق الداخلية من البلاد.
لا يقتصر اهتمام هذه البعثات على الشأن الديني لذاته فقط، لكنّها توظّف الشأن الديني في مشاريع سياسية مستخرجة من التفسيرات الحرفيّة للإنجيل (حزقيال بصورة خاصة) الذي تعتمده كنيسة العنصرة (كنيسة روح القدس) الأميركية. ويتمحور التوجيه السياسي حول الاقتداء بالسياسة الأميركية باعتبارها ترجمة للتعليمات التوراتية (؟). وبموجب هذه التعليمات فإنّ المسيح (عليه السلام) سوف يعود ثانية، وإنّ لعودته شروطاً لا بدّ من تنفيذها مسبقاً، لأنّ المسيح لن يعود إلا إلى مجتمع يهودي كما حدث في المرّة الأولى. ولن يعلن عن نفسه إلا داخل الهيكل اليهودي، كما فعل في المرّة الأولى أيضاً. ولذلك مساعدة اليهود على التجمّع في الأرض المقدّسة وعلى بناء الهيكل (على أنقاض المسجد الأقصى) هو تعبير عن الإيمان بالكتب المقدّسة وترجمة لها.
ترامب اليهودي
ولأنّ هذا الإيمان ليس نظريّاً، فإنّ الترجمة العمليّة له تتطلّب إجراءات تأييديّة للقرارات التي اتّخذها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بشأن القدس وإسرائيل. صحيح أنّ دونالد ترامب لم يكن لاهوتياً (مثل نائبه مايك بنس)، لكنّه من خلال المواقف التي اتّخذها (صفقة القرن ونقل السفارة الأميركية إلى القدس وإقرار شرعية توسعة المستوطنات اليهودية في الضفّة الغربية المحتلّة واحتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان) يتماهى مع أدبيّات الإيمان بالعودة الثانية للمسيح. وهو ما عزّز شعبيّته لدى جمهور الكنائس الإنجيلية الأميركية التي ترفع لواء هذه الأدبيّات بما فيها كنيسة العنصرة (Pentecostal).
يقف الفاتيكان (الكنائس الكاثوليكية) وموسكو وإسطنبول (الكنائس الأرثوذكسية) من أدبيات هذه الحركة الكنسية الإنجيلية موقفاً معاكساً ورافضاً. وتعتبر المرجعيّتان الكاثوليكية والأرثوذكسية كلّ ما تقول به هذه الحركة الدينية مجرّد تحريف للدين وسوء توظيف له. ولذلك وصفت كنيسة العنصرة البابا يوحنا بولس الثاني أثناء زيارة له لدول أميركا الجنوبية بأنّه “المسيح الدجّال”، وهو الذي رفعته كنيسته إلى مستوى القداسة. ومنذ عدة سنوات اتّخذ مجلس الدوما (مجلس النوّاب) الروسي قراراً بمنع كنيسة العنصرة من أيّ نشاط تبشيريّ في الاتحاد الروسي، وحصر مجالات العمل الديني بالأرثوذكسية والكاثوليكية والإسلام والبوذية فقط باعتبار أنّها الأديان التي يؤمن بها الشعب الروسي. من جهته، لم يكتفِ مجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي يضمّ كنائس الشرق المختلفة، بالترفّع عن مقولات هذه الكنيسة الإنجيلية الأميركية، لكنّه ندّد بها باعتبارها تقويل سيّء وخاطئ للإيمان المسيحي.
إقرأ أيضاً: هل بدأت الحرب الأميركيّة – الروسيّة؟
هناك كنائس إنجيلية أميركية كبرى تسفِّه هذه الأدبيات الدينية كالكنيسة المشيخية التي اتّخذت قراراً بسحب استثماراتها الماليّة من إسرائيل احتجاجاً على انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وهو ما فعلته كنيسة إنجيلية أميركية أخرى هي كنيسة المسيح الأولى التي ذهبت إلى مطالبة الكونغرس بوقف المساعدات لإسرائيل لأنّها تستخدمها ضدّ حقوق الإنسان.