ثلاثة أطراف، من أصل خمسة، تحتلّ الأراضي السورية التقت في طهران. ينظر كلّ طرف من الأطراف إلى الإرهاب من وجهة نظر خاصّة به مع تجاهل كامل للإرهاب الحقيقي المتمثّل في نظام أقلّويّ يشنّ حرباً على شعبه.
كشفت قمّة طهران الإيرانيّة – الروسيّة – التركية أوّل ما كشفت مدى تغيّر العالم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. أراد فلاديمير بوتين، الذي يسعى إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي، إثبات أنّ روسيا عادت دولة عظمى. انتهى به الأمر إلى أن ارتمى في حضن “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي بات وجوده في سوريا مرتبطاً بها بعدما كان العكس هو الصحيح بعد عام 2015.
لا تؤكّد ذلك الاتصالات الروسية مع إيران بغية الحصول على مسيَّرات بعدما استهلكت الحرب الأوكرانية معظم ما لدى روسيا منها فحسب، بل صار بوتين أيضاً في حاجة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” بغية ممارسة ضغوط على تركيا وعلى الرئيس رجب طيب إردوغان بالذات. لم يعد لدى روسيا ما يكفي من النفوذ كي تمنع تركيا من شنّ هجوم في الشمال السوري يستهدف الأكراد وصولاً إلى تكريس وجود دائم في العمق السوري على طول الحدود مع تركيا. في كلّ الأحوال، ذهب إردوغان إلى طهران ولم يكن مرتاحاً إلى الكلام الذي سمعه عن العملية العسكريّة التركيّة، لا من الإيراني ولا من الروسي. تضايق الرئيس التركي من عدم تقدير الجانبين لِما يعتبره بلده مصلحةً وطنيّة.
ليست القمّة سوى تعبير عن سياسة قائمة على قصر النظر والابتزاز في الوقت ذاته
نفّذت إيران المطلوب منها. قبل انعقاد القمّة، استقبل “المرشد” علي خامنئي إردوغان وذكّره بأنّ توجيه ضربة عسكرية لسوريا من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة، ذلك أنّ “أيّ ضربة عسكرية لسوريا ستلحق الضرر بالمنطقة وستفيد الإرهابيين”. قال بالحرف الواحد في ما يمكن اعتباره تهديداً غير مباشر صيغ بطريقة لطيفة مستوحاة من التراث الفارسي: “سنتعاون معكم حتماً في محاربة الإرهاب، لكنّ الحفاظ على وحدة الأراضي السورية مهمّ جدّاً بالنسبة إلينا، وأيّ هجوم عسكري على شمال سوريا سيضرّ تركيا وسوريا وكلّ المنطقة، وسيكون لمصلحة الإرهابيين. نحن نعتبر أمن تركيا من أمننا، وعليكم أنتم أيضاً أن تعتبروا أمن سوريا من أمنكم”.
خلاصة كلام خامنئي أنّ أمن تركيا مرتبط بالأمن الإيراني، وأنّ أيّ هجوم تركي على سوريا سيجعل الأمن التركي يهتزّ!
ستُظهر الأسابيع القليلة المقبلة هل يستجيب إردوغان للرغبات الإيرانيّة في ما يتعلّق بالشأن السوري حيث تشعر “الجمهوريّة الإسلاميّة” براحة أكبر منذ غرق بوتين في الوحول الأوكرانيّة؟ كلّ ما في الأمر أنّ استضافة طهران للقمّة الثلاثية بحضور الرئيسين التركي والروسي يثبت الدور المحوري الذي باتت تلعبه في المنطقة. في النهاية، لم يجد فلاديمير بوتين مكاناً غير طهران يذهب إليه للردّ على جولة الرئيس جو بايدن التي بدأت بتل أبيب وانتهت في جُدّة. كذلك الأمر بالنسبة إلى رجب طيب إردوغان الذي اعتقد، عن طريق الخطأ، أنّ كلّ أبواب العالم ستكون مفتوحة له ولتركيا في أعقاب سلسلة المواقف الأخيرة التي اتّخذها، بما في ذلك التقرّب من إسرائيل.
التقى في العاصمة الإيرانيّة المتضرّرون من قمم جُدّة في وقت يبدو فيه الجانب التركي في حيرة من أمره أكثر من أيّ وقت. تغيّر رجب طيّب إردوغان من دون أن يتغيّر. هل يستطيع سياسيّ يؤمن بفكر الإخوان المسلمين، بكلّ تخلّفه، أن يتغيّر نحو الأفضل؟
هذا لا يمنع الاعتراف بأنّ نتائج القمّة التي استضافتها طهران صبّت في مصلحة إيران التي زادت عدائيّةً اتجاه دول العالم واتجاه محيطها متسلّحةً بأنّ فلاديمير بوتين صار في حضنها من جهة، وبقدرتها على الضغط على تركيا، إن في حدود معيّنة، من جهة أخرى.
ليست القمّة سوى تعبير عن سياسة قائمة على قصر النظر والابتزاز في الوقت ذاته. يعتقد رجب طيب إردوغان أنّ الذهاب إلى طهران يوفّر له ورقة ضغط على الإدارة الأميركية وأوروبا عموماً. يعتقد فلاديمير بوتين أنّ إيران ورقة يمكن أن يستخدمها في الضغط على أميركا وأوروبا في كلّ ما يتعلّق بالحرب الأوكرانية، تماماً مثل ورقة النفط والغاز الروسيَّين.
تبقى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي تضع إبقاء النظام السوري حيّاً يُرزق في أولويّة أولويّاتها. لا تدرك أنّ هذا النظام ما زال موجوداً، أقلّه رمزيّاً، لأنّ إسرائيل تريد أن يبقى إلى أن تنتهي المهمّة التي وُجد من أجلها. تتلخّص المهمّة، التي بدأت بتسليم الجولان إلى إسرائيل في عام 1967، بتفتيت سوريا، على غرار ما حصل في العراق… أو في لبنان الذي فقد كلّ مقوّمات وجوده.
يتحدّث الرئيسان الروسي والإيراني (إبراهيم رئيسي)، من طهران، عن ضرورة خروج القوات غير الشرعيّة من سوريا من منطلق أنّ هناك احتلالاً شرعيّاً واحتلالاً آخر غير شرعي. أي أنّ الاحتلالات الثلاثة، التركي والإسرائيلي والأميركي، ليست شرعية في حين هناك احتلالان شرعيّان، من النوع الحلال، هما الاحتلال الإيراني والاحتلال الروسي. يستند بوتين ورئيسي في ذلك إلى أنّ الوجودين الإيراني والروسي جاءا بناء على طلب النظام السوري. لا يسألان هل من شرعيّة ما لهذا النظام الذي في أساسه انقلاب عسكري في عام 1963 ما لبث أن تحوّل تدريجاً إلى تسلّط لأقلّيّة معيّنة على سوريا وشعبها وخيراتها؟
من الباكر إعطاء تقويم محايد لنتائج جولة الرئيس جو بايدن التي شملت إسرائيل والسعوديّة ومحطّة فلسطينيّة قصيرة في بيت لحم. سيظلّ السؤال: إلى أيّ حدّ نجح جو بايدن في جعل الجولة تخدم المصالح الأميركية، وما إذا كانت ستساعد في الحدّ من أزمة الطاقة التي تسبّبت بها حرب أوكرانيا؟
إقرأ أيضاً: اجتماع طهران.. وقرار إسرائيل
في المقابل، ثمّة نتيجة وحيدة واضحة لقمّة طهران كشفت أنّ فلاديمير بوتين ارتمى في الحضن الإيراني… في حضن بلد يبحث عن الخروج من العقوبات الأميركيّة يعيش أكثر من نصف شعبه تحت خطّ الفقر!