تتعدّى قضية توقيف النائب البطريركي المطران موسى الحاج، ومصادرة هاتفه وبعض متعلّقاته، عند معبر الناقورة، الحجج التي سيقت بشأن التوقيف. الرجل الآتي من الناصرة حاملاً مساعدات لأُسَر لبنانية في أوج الحاجة، متّهم بالعمالة والتطبيع، بحسب قانون لبناني رسمي، في لحظة تتّسم للمفارقة بتردّي كلّ ما له علاقة ببديهيّات فكرة القانون والنظام العامّ!
طبعاً إنّ الرسالة السياسية التي حملها التوقيف لم تَفُت البطريرك بشارة الراعي والكنيسة عموماً، التي تتّسع هوّة الموقف بينها وبين ميليشيا حزب الله في ملفّات سياسية حسّاسة، تبدأ من موقف بكركي من حياد لبنان ولا تنتهي عند معركة رئاسة الجمهورية التي تفصلنا عنها نحو مئة يوم.
بلا مبالغة أقول إنّ التوقيف حصل في سياق محدّد هو سياق حرب أهلية، بمعناها المعاصر، لا بمعناها الاحترابي الجلف الذي طبع الحروب الأهليّة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان للبنان نصيبه منها بدءاً من عام 1975.
وما استهداف دور الكنيسة من باب المطران، لا غيره من الأبواب، إلا بناء واضح على الذاكرة المسيّسة للحرب الأهلية الفائتة، بهدف إدارة الحرب الأهلية الراهنة
حصلت الحرب الأهليّة اللبنانية الأولى في لحظة انتقال النظام اللبناني من الصيغة الديمقراطية إلى صيغة الهيمنة اللامركزية للميليشيات وديكتاتوريّاتها مصحوبة مع انهيار السياسة بمعناها الواسع وتحوُّلها إلى سياسة هويّات وطوائف وجماعات تتنافس على الخوف والتوتّر والقلق.. ثمّ توقّفت تماماً مع استتباب الهيمنة السورية، واندراج لبنان ضمن هيمنة النظام الديكتاتوري السوري على سوريا ولبنان وإن بقواعد مختلفة في البلدين. وتحصل الحرب الأهلية الثانية، الجارية راهناً، في لحظة الانتقال الطويل من نظام هيمنة حزب الله كوريث للنظام السوري، إلى ما بعده.
كيف تحصل الحروب الأهلية؟
هنا، في هذه المنطقة الانتقالية الرمادية، إمّا من نظام ديمقراطي إلى ما بعده، وإمّا من نظام ديكتاتوري إلى ما بعده، غالباً ما تحصل الحروب الأهلية، بحسب الكاتبة الأميركية باربرا والتر في كتابها “كيف تحصل الحروب الأهلية”، حيث تبرز علامات واضحة على ضعف المؤسّسات وقلق الجماعات وانحسار السياسة إلى التعبير الفظّ عن الهويّات. وغالباً ما يصاحب ذلك بروز قيادات شعبوية تحترف التعبئة السياسية والاجتماعية عبر سرديّة عصبيّة وملتوية عن التاريخ إمّا تستعيد أمجاداً ماضية أو مهانات تاريخية.
هل هي مصادفة إذاً أن تتزامن قضية توقيف المطران موسى الحاج مع الاستنفار الهويّاتي المقزّز الذي عبّرت عنه الاحتفالات بنتائج الامتحانات الرسمية؟ فقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات تؤكّد على حلول “الشيعة” في المراتب الأولى لامتحانات الشهادتين المتوسّطة والثانوية، وكأنّها انتقام من ماضٍ ثابرت سرديّة ميليشيا حزب الله على استعادته وتغذيته عن الحرمان وعمّن يتآمرون “لإعادة الشيعة ماسحي أحذية” كما قال حسن نصرالله يوماً.
هذه الرغبة الحارّة في إعلان التفوّق بكلّ معانيه وفي شتّى الميادين، لا ينفصل عن شهيّة إعلان التفوّق السياسي الذي يعبّر عنه توقيف المطران، كآليّة إخضاع لجماعة أخرى، وحرمانها من حقّها في تقرير المصير الوطني أو النقاش حوله.
ليس صدفة أنّ الموارنة هم الهدف اليوم بعدما جرى تهميش السُنّة في لبنان، بدءاً من اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى سحق المعنى والفعل السياسيَّيْن للحريريّة طوال أكثر من عقد ونصف عقد من الزمن..
عصب المارونية.. يقاوم
ظنّ حزب الله أنّه باستتباع الحالة العونية كحالة مسيحية شعبية هائلة سيتمكّن من انتزاع عصب المارونية السياسية من تاريخ لبنان، ومستقبله. بيد أنّ عودة الكنيسة مع البطريرك بشارة الراعي لاستئناف المسار الوطني للكنيسة المارونية بعد البطريرك التاريخي الراحل مار نصرالله بطرس صفير، وعبر عناوين وطنية جامعة تحاكي طموحات النخبة اللبنانية التي انتفضت في العمق على نظام حزب الله، حتى حين حاولت التنصّل من هذه “التهمة”، كما تحاكي الخطاب العربي والدولي العاقل حول لبنان، أعادت وضع حزب الله في الزاوية مجدّداً.
وما استهداف دور الكنيسة من باب المطران، لا غيره من الأبواب، إلا بناء واضح على الذاكرة المسيّسة للحرب الأهلية الفائتة، بهدف إدارة الحرب الأهلية الراهنة. فغالباً ما تتبع الحروب الأهلية مسالك نزاعات وحروب سابقة، أو سرديّة شديدة التشوّه والتسييس عن حرب سابقة، حتى حين لا يكون اللاعبون الجدد هم أنفسهم أو القضايا موضع النزاع هي ذاتها.
بهذا المعنى فإنّ أسهل ما يمكن تقديمه لجمهور حزب الله تجنّباً للسجال العلمي والوقائعي مع الكنيسة حول تعريف مصلحة لبنان، هو استعادة تهم العمالة والخيانة والتطبيع والتقسيم، من قاموس الحرب السابقة، وحقنها في شرايين الحرب الجارية، و”كفى الله المومنين شرّ القتال”!
إقرأ أيضاً: الطغاة يحاولون “تأديب” بكركي: إقرأوا التاريخ
بين الاحتفالات بنتائج الشهادات الرسمية وقضية المطران موسى الحاج، تقدّم الشيعية السياسية، ممثَّلة بحزب الله، جماعةً أهلية وسياسية تعاني من اقتران عقدة النقص بفائض القوّة، وهو مزيج مفخّخ لا ينتج إلا خطاب حرب أهلية وسلوكها.