هناك عودة أميركيّة أكيدة إلى المنطقة تعبّر عنها جولة الرئيس جو بايدن الذي زار إسرائيل وانتقل منها مباشرة إلى المملكة العربيّة السعوديّة. لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلاً أم آجلاً سيكون متعلّقاً بطبيعة هذه العودة الأميركيّة التي فرضتها حاجة العالم إلى مصادر الطاقة من جهة، وإلى التصدّي الجدّيّ للمشروع التوسّعي الإيراني من جهة أخرى.
على هامش الجولة، كان على الرئيس الأميركي تفقّد أحوال رئيس السلطة الوطنيّة الفلسطينية محمود عبّاس (أبو مازن) في بيت لحم، وذلك من باب رفع العتب لا أكثر.
من أوكرانيا إلى إيران، ثمّة فرصة أمام أميركا للقول إنّها عادت بالفعل إلى الشرق الأوسط والخليج على الرغم من أنّ الوضع الاقتصادي فيها ليس مريحاً بالنسبة إلى إدارة بايدن
جاءت الجولة التي بدأت بتل أبيب والمحادثات بين بايدن وكبار المسؤولين الإسرائيليين، على رأسهم رئيس الوزراء يائير لابيد، في وقت اختلطت فيه الأوراق في العالم. ظهر بوضوح، ليس بعده وضوح، أنّ عالم ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا لا علاقة له بعالم ما بعد سعي الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يتحوّل بشكل تدريجي إلى نسخة عن الزعيم السوفياتي الراحل جوزيف ستالين، إلى احتلال بلد أوروبي وتحويل نفسه إلى شخص منبوذ وروسيا دولة معزولة.
ثمّة نقطتان لا بدّ من التوقّف عندهما مع مجيء بايدن إلى الشرق الأوسط والخليج. تتعلّق النقطة الأولى بالتركيز على إيران ودورها في المنطقة، بما في ذلك تدخّلاتها عبر ميليشياتها المذهبيّة التابعة لـ”الحرس الثوري” في العراق وسوريا ولبنان واليمن. أمّا النقطة الثانية فتتعلّق بأهمّية المملكة العربيّة السعودية ودورها المحوري في مجالات مختلفة بدءاً بموقعها الاستراتيجي وانتهاءً بما تمثّله كمنتج للنفط.
جاء بايدن إلى السعودية والتقى في جدّة الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان الذي كان الرئيس الأميركي اتّخذ موقفاً متحفّظاً منه في خلال حملته الانتخابيّة خصوصاً. في نهاية المطاف، وجدت أميركا نفسها في وضع لا تُحسد عليه بعدما كانت بعثت قبل سنة بكلّ الرسائل الخطأ إلى حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط والخليج. كانت تلك الرسائل الخطأ من خلال الطريقة التي انسحبت بها عسكريّاً من أفغانستان، وهي طريقة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها عشوائية. بات عليها إعادة فتح ملفّات قديمة، بينها الحلف الاستراتيجي القديم مع السعوديّة في محاولة لإعادة الحياة إليه.
تغيّر العالم كلّيّاً في ظلّ أزمتَيْ الطاقة والموادّ الغذائية والحرب الأوكرانيّة. زادت إيران عدائيّة تجاه محيطها بعدما أدركت أنّ الإدارة الأميركيّة لا يمكن أن ترفع عنها العقوبات بالسهولة التي تتصورّها، إضافة إلى أنّها لا يمكن أن ترفع “الحرس الثوري” عن لائحة الإرهاب. ستقود “الجمهوريّة الإسلاميّة” حملة واسعة على أميركا مستعينةً بروسيا، وربّما بالصين. ليس صدفةً أنّ قمّة ستُعقد قريباً في طهران يحضرها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والرئيس الروسي والرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي أبدى في الأشهر القليلة الماضية تضايقاً واضحاً من بوتين وممّا فعله في أوكرانيا. ليس معروفاً بعد لماذا قبل إردوغان الذهاب إلى طهران، وهل وجدت إيران وسيلة لممارسة ضغوط عليه؟
يبدو واضحاً أنّ إيران باتت الطرف الأقوى في سوريا، في حين لم يعد من مجال لمناقشة مدى تحكّمها بلبنان وبقرار السلم والحرب فيه عبر ميليشيا “حزب الله”
الثابت أنّ أوروبا ضعفت وأميركا لم تزدَد قوّة في ضوء زيادة نسبة التضخّم فيها. الأمر الآخر أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” لم تعُد في موقع المحتاج إلى روسيا، بل إنّ روسيا صارت تحت رحمة إيران أكثر من أيّ وقت. ليس سرّاً أنّ روسيا طلبت التزوّد بطائرات مسيّرة إيرانية على أن يتولّى الإيرانيون تدريب العسكريين الروس على استخدام هذه الطائرات.
لا يدلّ على الضعف الأوروبي أكثر من وجود ثلاث دول مهمّة تعاني من مشاكل سياسيّة داخليّة كبيرة. الدول الثلاث هي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. فَقَد الرئيس إيمانويل ماكرون الأكثرية في الجمعية الوطنيّة (مجلس النواب)، فيما تبحث بريطانيا عن بديل من رئيس الوزراء بوريس جونسون. أمّا الحكومة الإيطالية برئاسة ماريو دراغي، فقد استقالت بعد فقدان دعم الائتلاف الحاكم. لكنّ أكثر ما يعبّر عن الضعف الأوروبي، فهو هبوط سعر اليورو إلى مستوى الدولار الواحد للمرّة الأولى منذ عشرين عاماً. حتّى الاقتصاد الألماني بدأ يعاني بسبب انقطاع الغاز الروسي!
مع انتهاء جولة بايدن، أيُّ أميركا عادت إلى المنطقة؟ ستكون مرحلة ما بعد جولة الرئيس الأميركي مرحلة الأجوبة الصعبة، خصوصاً أن ليس ما يشير، أقلّه إلى الآن، إلى مدى عمق التنسيق الأميركي – الإسرائيلي في مواجهة المشروع التوسّعي الإيراني، بما في ذلك البرنامج النووي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”. كذلك، ليس معروفاً إلى أيّ حدّ ستذهب أميركا في دعم حلفائها في مواجهة الخطر الإيراني الداهم. لا يتمثّل هذا الخطر في تمكّن “الجمهوريّة الإسلاميّة” من تحويل جزء من اليمن إلى قاعدة صواريخ ومسيَّرات تابعة لها فحسب، بل إنّ إيران لا تفوّت أيضاً فرصة كي تُظهر مدى سيطرتها على العراق عن طريق تعطيل الحياة السياسيّة فيه. ما نفع العراق في سياق وضع استراتيجية دفاعيّة للمنطقة عندما يكون تحت السيطرة الإيرانيّة؟
إضافة إلى ذلك كلّه، يبدو واضحاً أنّ إيران باتت الطرف الأقوى في سوريا، في حين لم يعد من مجال لمناقشة مدى تحكّمها بلبنان وبقرار السلم والحرب فيه عبر ميليشيا “حزب الله”.
وسط كلّ ما يدور من غرائب في هذا العالم، تبقى ملاحظة أخيرة. تتعلّق هذه الملاحظة بقدرة أميركا على استعادة دور قيادي، كما كانت عليه الحال في عام 1990 عندما تولّت التصدّي بنجاح للغزو العراقي للكويت. هل يستطيع جو بايدن أن يكون جورج بوش الأب الآخر؟ هل يمتلك مساعدين من طينة وزير الخارجية جيمس بايكر ومستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت اللذين كانا إلى جانب بوش الأب وكانا يعرفان حساسيّات المنطقة عن ظهر قلب؟
إقرأ أيضاً: “أساس” يسأل عن زيارة بايدن: لا “ناتو” عربيّ.. ولا حرب
من أوكرانيا… إلى إيران، ثمّة فرصة أمام أميركا للقول إنّها عادت بالفعل إلى الشرق الأوسط والخليج على الرغم من أنّ الوضع الاقتصادي فيها ليس مريحاً بالنسبة إلى إدارة بايدن. لكنّ الأكيد أنّه، في ظلّ ما يدور على الكرة الأرضية، يوجد مجال لممارسة سياسة أميركية مختلفة عن تلك التي مارسها أمثال جيمي كارتر وباراك أوباما وحتّى دونالد ترامب…