مضى ربع قرن على أوّل زيارة لرئيس أميركي لفلسطين، وكان ذلك مع بيل كلينتون، الذي استقبله الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مطار غزة الدولي. حينذاك كانت الآمال أن يحدث اختراق حقيقي في ملف التسوية السلمية مع إسرائيل برعاية أميركية، تلامس عنان السماء.
يومذاك تعلّق الفلسطينيون بالرئيس الشاب، وكانت أميركا في ذروة قوّتها. فقد حسمت صراعها للتوّ مع الاتحاد السوفييتي، بعد تفكّكه، معلنةً عن نفسها القوّة الكونية الأولى بلا منافس، قبل أن يكتشف الفلسطينيون أنّ أملهم هذا سراب، وأنّ بيل كلينتون لم يكن أكثر من ساعي بريد لإيهود باراك. وفي كامب ديفيد فشل كلّ شيء وأُسدل الستار على عملية السلام.
وفقاً لمسؤول سياسي إسرائيلي، فإنّ الولايات المتحدة هي التي دفعت إلى إجراء المحادثة بين لابيد والرئيس عباس، طالبةً أن يسعى الطرفان إلى التهدئة، قبيل زيارة بايدن للمنطقة
لكنّ كلينتون وضع تقليداً سار عليه رؤساء الولايات المتحدة. إذ زار جورج بوش الابن ثمّ باراك أوباما فلسطين وبيت لحم وإسرائيل، ووزّعوا أمانيهم بالسلام كما أمنيات العجائز، بدون أن يجرؤوا على فرض برامج أو مطالب أو حقوق جديّة على إسرائيل تتعلّق بعملية السلام.
الآن يأتي الرئيس بايدن إلى المنطقة وهو في ذروة ضعفه. فهو يسير كبطّة عرجاء في واشنطن، واحتمال خسارته لانتخابات التجديد النصفية للكونغرس واردة جدّاً. فالأزمة الاقتصادية العالمية، التي حدثت بسبب الحرب المستمرّة بين أوكرانيا وروسيا، ساهمت في ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة وأدّت إلى تضخّم ماليّ من شأنه تعزيز المخاوف من ركود اقتصادي حادّ في أميركا، لن يحتمل بايدن ثمنه السياسي إذا لم يوقفه بسرعة. لذلك يأتي بايدن إلى المنطقة ودول الخليج، وعينه على تحالف شرق أوسطيّ تكون في قلبه إسرائيل، على أمل تعزيز حظوظه بالفوز، وعينه الثانية على نفط الخليج، وإمدادات النفط في ضوء الصراع مع روسيا، إذ إنّه يخطّط لزيادة إنتاج النفط لخفض الأسعار من خلال مجمع “أوبك بلاس”.
فواشنطن تحلم بعودة سعر برميل النفط إلى ما بين 80 و90 دولاراً. وهذا ما قاله بايدن في مقال له في “واشنطن بوست” لمناسبة زيارته للشرق الأوسط: “إنّ وجود شرق أوسط أكثر أمناً وتكاملاً يعود بالفائدة على الأميركيين من نواحٍ عديدة. فمجاريه المائية ضرورية للتجارة العالمية وسلاسل التوريد التي نعتمد عليها. موارد الطاقة فيه حيويّة للتخفيف من التأثير على الإمدادات العالمية بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا”.
زيارة بلا سياسة؟
باتت القيادة الفلسطينية تدرك الأهداف المركزية لزيارة بايدن للمنطقة، وهي بعيدة كلّ البعد عن تدشين مسار سياسي، وأنّ زيارة بايدن لبيت لحم ولقاءه بالرئيس الفلسطيني أقرب ما يكونان إلى زيارة سياحية لالتقاط صور تذكارية، وتقديم حوافز ماليّة، شبيهة بهدايا بابا نويل. إذ يعتزم الأميركيون تقديم 200 مليون دولار، وتمنّياتٍ ببقاء الهدوء الأمني في الضفة وغزّة، بدون الحديث عن حلّ سياسي.
كيف للرئيس بايدن الذي لم يجرؤ على الوفاء بعهده بفتح قنصلية أميركية للفلسطينيين في القدس الشرقية، كما فتح ترامب قنصلية أميركية في القدس الغربية، ولم يُعِد فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، كيف لرئيس بهذا الضعف أن يضغط على تل أبيب لتدشين مسار سياسي؟! وقد عبّر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، عزّام الأحمد، عن عدم تفاؤله بزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة، التي تأتي ضمن أجندات وحسابات ليس من ضمنها القضية الفلسطينية.
لم تكن المكالمة الهاتفية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهي الأولى من نوعها منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية، لتهنئته بعيد الأضحى، سوى ذرّ للرماد في العيون، وذلك على إيقاع زيارة بايدن لإسرائيل والضفة الغربية ومنطقة الخليج.
وفقاً لمسؤول سياسي إسرائيلي، فإنّ الولايات المتحدة هي التي دفعت إلى إجراء المحادثة بين لابيد والرئيس عباس، طالبةً أن يسعى الطرفان إلى التهدئة، قبيل زيارة بايدن للمنطقة، ووعد الجانب الإسرائيلي بتقديم تسهيلات للفلسطينيين، وأيضاً بناءً على توصية من الجانب الأميركي. غير أنّ الرئيس عباس توجّه إلى لابيد بالقول إنّ الخطوات، التي تتّخذها إسرائيل في المجالين الاقتصادي والمدني للسلطة الفلسطينية، لا طائل منهما في ظلّ غياب مسار سياسي. وأضاف المسؤول الإسرائيلي أنّ لقاءً بين لابيد وأبو مازن ليس مطروحاً في هذه المرحلة: “لمصلحة الطرفين”. وفسّر أقواله بأنّ لقاءً كهذا سيتحوّل إلى سلاح بيدي بنيامين نتانياهو في معركته الانتخابية لإنهاء حكم لابيد ومعسكر الوسط الليبرالي.
بين الزيارة الأولى لبايدن نائباً للرئيس والثانية له رئيساً، جرت مياه كثيرة في النهر، منها المياه الترامبيّة الآسنة، التي كانت عرّابة صفقة القرن، والمناخات الدولية المسمومة بسبب الحرب الأوكرانية
مختبر سلاح “غير مكلف”
ليس جديداً القول بأنّ زيارة بايدن لتل أبيب، ولقاءه يائير لابيد، يعكسان رغبته بالتشديد على التزامه الشخصي الاستثنائي تجاه إسرائيل، ورغبته بالتعبير عن التزام الولايات المتحدة الكامل بأمنها وازدهارها في مواجهة طهران. ويمكن التقدير بأنّ الزيارة ستكون ممتلئة بالوعود تجاه إسرائيل، ومن ضمنها الإعراب عن الاستعداد لتعميق التعاون الاستراتيجي معها على المستوى الاستخباري والتكنولوجي، والمساعدة في تطوير منظومات دفاع جوّي متطوّرة تساعدها على التصدّي في المستقبل لتحدّيات أمنية من جهة طهران. ومن ضمن ذلك الامتناع عن طرح خطط جديدة للتسوية في المجال الفلسطيني.
وحسب خبير أميركي، أصبحت تل أبيب بمنزلة “مختبر قليل التكلفة للصناعات الأمنيّة الأميركية”، التي يعمل فيها نحو أربعة ملايين أميركي، وذلك في ظروف مثالية، لأنّ هذا “المختبر” يخوض قتالًا حقيقياً في أكثر من جبهة، ويُستفاد منه في جانبين: اقتصادي وعملاني. فمن خلاله يُحسَّن أداء القوات الأميركية أيضاً. والنموذج الأبرز لذلك كان استخدام سلاح الجوّ الإسرائيلي طائرات من طرازَيْ “إف 16″ و”إف 35” التي تنتجها شركة لوكهيد مارتين الأميركية، ونقل تقارير يومية إلى سلاح الجوّ الأميركي، تشتمل على الدروس المُستخلَصة من العمليات العسكرية ومن أعمال الصيانة والتصليح، لتحسين الجيل المقبل من تلك الطائرات.
بايدن “الصهيوني”؟
يأتي بايدن للمنطقة للمرّة الثانية. كانت المرّة الأولى عندما كان نائباً للرئيس الأميركي باراك أوباما. ومع اقتراب موعد زيارة بايدن لإسرائيل، استذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد مقولة سابقة لبايدن عندما كان نائباً لأوباما، إذ قال ذات مرّة عن نفسه: “ليس عليك أن تكون يهوديّاً لكي تكون صهيونيّاً. أنا صهيونيّ”.
وعندما جاء بايدن للمنطقة نائباً للرئيس أوباما، كان أكثر تفاؤلاً، وأكثر قوّة. فقد استمدّ قوّته من أوباما، الذي أجرى عند وصوله إلى البيت الأبيض اتصالاً هاتفياً بالرئيس محمود عباس، أبلغه فيه عن التزامه العميق بحلّ الدولتين، ورفضه للاستيطان في الضفة الغربية، وتعهّد بفعل كلّ ما هو ممكن من أجل ذلك، قبل أن يتراجع أوباما عن ذلك بفعل قوة اللوبي الإسرائيلي.
وبين الزيارة الأولى لبايدن نائباً للرئيس والثانية له رئيساً، جرت مياه كثيرة في النهر، منها المياه الترامبيّة الآسنة، التي كانت عرّابة صفقة القرن، والمناخات الدولية المسمومة بسبب الحرب الأوكرانية. يزور بايدن إسرائيل وسط حديث عن عودة المشعوذ نبامين نتانياهو، وليقابل حكومة لابيد الضعيفة التي هي في حكم حكومة تصريف أعمال، ولديها كلّ مبرّرات عدم الحديث عن الملفّ السلمي، وتتّكئ على عملية طويلة من تطويع الفلسطينيين وتكريس معادلة اقتصادية سواء في الضفة أو غزّة.
إقرأ أيضاً: مشكلة إسرائيل مع العَلَم الفلسطينيّ
في أجواء زيارة بايدن لفلسطين، وجّهت عائلة الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة رسالة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، في ضوء بيان وزارة الخارجية الأميركية الذي لم يوجّه الاتّهام إلى تل أبيب بقتل شيرين، بعد فحص الرصاصة، قالت فيها: “نحن عائلة شيرين أبو عاقلة، نكتب للتعبير عن حزننا وسخطنا وإحساسنا بالخيانة إزاء ردّ إدارتكم المرير على القتل خارج نطاق القانون لشقيقتنا وعمّتنا على يد القوات الإسرائيلية”. وتضمّنت الرسالة خمسة مطالب، من بينها شطب البيان الأخير لوزارة الخارجية الأميركية الذي برّأ الجيش الإسرائيلي من قتل شيرين خارج نطاق القانون، ولقاء بايدن مع العائلة خلال زيارته المقبلة للمنطقة للاستماع مباشرة إلى مخاوفهم ومطالبهم بالعدالة لشيرين بصفتها مواطنة أميركية.
*كاتبة فلسطينية مقيمة في غزّة