فراغ الشرق الأوسط.. صناعة أميركيّة

مدة القراءة 5 د

كما لو أنّه يزفّ بشرى للعالم العربي، أعلن الرئيس جو بايدن أنّ أميركا عائدة إلى الشرق الأوسط، ولتوضيح فلسفته بهذا الشأن استدرك قائلاً: “كي لا تملأ روسيا والصين الفراغ”.

ما يزال الوجود الأميركي في المنطقة بكلّ مستوياته المدنية والعسكرية هو الأقوى والأكثر اتّساعاً من وجود دول العالم مجتمعة، وإذا ما قورن بالصيني والروسي خاصةً، فلا مجال للمقارنة أساساً، ذلك أنّ الاجتياح الصيني التجاري للمنطقة القائم على السلع الشعبية الرخيصة الثمن والاتفاقيات التجارية مع روسيا لا يملآن من الناحية الاستراتيجية ما وُصِف بالفراغ الناجم عن الانسحابات الأميركية المحدودة من بعض المناطق، والتي روّج لها على أنّها بداية التخلّي عن الشرق الأوسط.

كانت اللغة الاعتذاريّة للرئيس بايدن أحد التعبيرات الدالّة على الاعتراف بالخطأ، إلا أنّ ما يحيّر هو أنّنا لم نسمع كلمة واحدة تشير إلى أنّ سياسة أميركية جديدة تتدارك أخطاء الماضي، إذ لم تُقَل ولم يُبشَّر بها

كان ذلك قابلاً للتداول وحتى الاقتراب من التصديق قبل الحرب الروسية الأوكرانية، وفي عهد “عنتريّات” دونالد ترامب، واستسهاله القيام بانقلابات على المعادلات المتكرّسة، مثل انقلاباته على العلاقات مع أوروبا وحلف الناتو التي أوشك على تحويلها إلى علاقات ابتزازيّة وعدائيّة.

ليس الفراغ في حجم الوجود والانتشار، وإنّما في السياسات، ذلك أنّ الدولة العظمى ذات النفوذ الأوّل في الشرق الأوسط ما عدا جيوباً ملتبسة الولاء لم تؤدِّ سياستها في هذه المنطقة الحيوية بقدر كافٍ من التوازن المقنع للطرف العربي فيها، ولم تراعِ حتى مصالح أقرب حلفائها من العرب انطلاقاً من معتقد يبدو أنّه لم يعد منطقياً الآن، ومفاده أنّ العرب يقبلون بالقليل وأنّ حاجتهم إلى أميركا أكثر بكثير من حاجتها إليهم، مع أنّ العكس كان صحيحاً في الماضي وتكرّس بصورة أوضح في الحاضر.

كانت اللغة الاعتذاريّة للرئيس بايدن أحد التعبيرات الدالّة على الاعتراف بالخطأ، إلا أنّ ما يحيّر هو أنّنا لم نسمع كلمة واحدة تشير إلى أنّ سياسة أميركية جديدة تتدارك أخطاء الماضي، إذ لم تُقَل ولم يُبشَّر بها.

ما دامت أميركا بإداراتها الجمهورية والديمقراطية تتجاهل هذه المبادرة وتسعى إلى استبدالها باتجاه معاكس فسوف يظلّ الفراغ قائماً بروسيا والصين أو بغيرهما، وستظلّ المنطقة التي ارتفع سعرها زمن الحرب الروسية الأوكرانية مفتوحة على الخطر

خطأ أميركا الفلسطيني

لا تعرف الولايات المتحدة في كلّ إداراتها الجمهورية والديمقراطية، أو تعرف وتتجاهل، قوّة تأثير القضية الفلسطينية في الرأي العام العربي والإسلامي، الذي غالبيّته العظمى من أهل الشرق الأوسط. وعلى هذا الصعيد نقول مرّة أخرى إنّه لا توازن ولو بحدوده الدنيا في الموقف والسلوك. حتى في معظم المنعطفات الرئيسية المهمّة بدت الدولة العظمى ذات البنى العملاقة في هذا الأمر كمقطورة تجرّها أحصنة إسرائيلية. وحين حاول بايدن تكحيلها عماها، كما يُقال في الأمثال العربية، إذ أعلن قبل الصعود إلى الطائرة أنّ هدف الزيارة هو مصالح إسرائيل أوّلاً وأخيراً، وعندما هبط على أرض مطار بن غوريون أعلن بتباهٍ أنّه صهيوني وإن لم يكن يهودياً، ومن أجل أغراض انتخابية متبادلة بينه وبين يائير لابيد افتعل الاثنان حكاية وثيقة القدس التي تجسّد ما كان متجسّداً أصلاً، وهو الاندماج المطلق بين أميركا وإسرائيل في كلّ المجالات.

حتى حين قدّم للفلسطينيين جائزة الترضية المتواضعة المؤلّفة من هبات مالية لمستشفيات القدس، سحب ما قدّم بجملة واحدة قالها في بيت لحم وجاء فيها أنّ حلّ الدولتين هو الخيار الوحيد، لكنّ قيام دولة فلسطينية على المدى البعيد والأبعد لن يكون. وذلك يعني كما يرى الفلسطينيون والعالم على الأرض أنّ الرئيس الهادئ والمنمّق الكلام منح الإسرائيليين ما يكفي ويزيد من الوقت لاستكمال سياسة تدمير الإمكانيات المادّية والسياسية لقيام الدولة الفلسطينية، حتى لو بشّر بها بايدن ورسم حدودها أفضل ممّا فعل سلفه دونالد ترامب.

ليس الفلسطينيون قلقين على قضيّتهم، إلا أنّ بايدن ضاعف قلقهم على الحلّ، فالقضية الفلسطينية باقية ما دامت الملايين التي تزيد على خمسة عشر بلا هويّة ولا وطن. هذه هي فلسفة الفراغ الأميركي الذي يخشى الرئيس بايدن أن يملأه الصينيون والروس. وكأنّه يسعى إلى اشتباك معهما على أرض الشرق الأوسط.

الحسابات الأميركية التي استندت إلى مسلّمات الماضي المنقرضة واستقطابات الحرب الباردة وُوجِهت بحقائق جديدة يفترض أن يكون الرئيس بايدن قد لمسها في لقاء جُدّة حيث الثابت العربي الجماعي ما يزال هو القضية الفلسطينية وحتمية حلّها على أساس المبادرة العربية للسلام.

إقرأ أيضاً: قمّة جدّة: لبنان .. الغائب الحاضر

وما دامت أميركا بإداراتها الجمهورية والديمقراطية تتجاهل هذه المبادرة وتسعى إلى استبدالها باتجاه معاكس فسوف يظلّ الفراغ قائماً بروسيا والصين أو بغيرهما، وستظلّ المنطقة التي ارتفع سعرها زمن الحرب الروسية الأوكرانية مفتوحة على الخطر.

الذي صنع الفراغ أميركا، والذي يملأه توازن مقنع في السياسة والسلوك أساسه حلّ القضية الفلسطينية بما يرضي العرب.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…