يضيف عهد ميشال عون إلى سجلّ فشله الطويل، الفشل في إدارة ملفّ استراتيجي، ملفّ ترسيم الحدود البحريّة. العهد الذي شُبّه بـ “القويّ”، ينتهي بإضعاف الدولة في آخر عنصر قوّة لها: ثروتها النفطيّة والغازيّة. أطبق حزب الله على الملفّ. شكّل لجنة لمتابعته. وبدأ بإطلاق المسيّرات. وبذلك يكون ميشال عون قد سهّل لحزب الله سيطرته على البحر، بعدما وفّر له الغطاء، بتحالفه معه منذ 2006، للسيطرة على البرّ.
في خطابه لمناسبة “حرب لو كنت أعلم” هدّد السيّد حسن نصرالله بالذهاب إلى الحرب، وبأنّه لن ينتظر “إجماعاً” لبنانياً مؤيّداً لها. وقال: “إذا كان الخيار عدم مساعدة لبنان ودفعه باتّجاه الانهيار ومنعه من استخراج الغاز، فإنّ التهديد بالحرب، بل والذهاب إليها، أشرف بكثير”.
يهدّد نصرالله بالحرب وكأنّ قرارها بيده! لكنّه يعلم أنّ قرارها بيد راعيه الإقليمي إيران. وهذا الأخير عاجز عن دعم حرب اليوم
على هذا الكلام وغيره هناك جملة ملاحظات نختصرها بالآتي:
1- يهدّد نصرالله بالحرب وكأنّ قرارها بيده! لكنّه يعلم أنّ قرارها بيد راعيه الإقليمي إيران. وهذا الأخير عاجز عن دعم حرب اليوم. فالخناق يضيق عليه أكثر فأكثر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً سياسيّاً وعسكرياً.
يتّجه التنسيق العربي – الإسرائيلي إلى تشكيل جبهة سياسيّة وأمنيّة بوجه إيران ونفوذها ومشروعها في المنطقة. وإنّ توقيع رئيس حكومة إسرائيل يائير لابيد والرئيس الأميركي جو بايدن “وثيقة إعلان القدس” التي تلتزم “عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي” هو أشبه بضوء أخضر أميركي لإسرائيل للقيام بضربات عسكرية موضعيّة في إيران، إذا ما اضطرّت إلى ذلك، لمنعها من الحصول على السلاح النووي. عِلماً أنّها تقوم باغتيال علمائها النوويين. واقتصادياً، تعاني إيران ما يعانيه لبنان. واجتماعياً، يعاني الإيرانيون ما يعانيه اللبنانيون من فقر وجوع وضيقة.
2- يهدّد نصرالله بالحرب معتبراً أنّ “البيئة والقدرات والجغرافيا (التي) كلّها مع المقاومة”.
لنبدأ بالبيئة. هل كلّها مع “المقاومة”؟ إذا قصد البيئة اللبنانيّة بكلّ مكوّناتها الدينيّة والطائفيّة واللادينية واللاطائفيّة، فالانتخابات الأخيرة أكّدت أنّها بغالبيّتها ليست معه، لا بل ضدّه وضدّ مشروعه في لبنان والمنطقة. وإذا قصد البيئة الشيعيّة، فهي لم تعُد كلّها معه. ولولا التهديد والبلطجة ضدّ الناشطين فيها لانتفضت ضدّه. وفي كلّ الأحوال كلّ هذه البيئة جائعة. الرجال فيها والنساء همّهم الوحيد اليوم إطعام أبنائهم، وشراء حبّة دواء لمرضاهم، ودفع أقساط تلامذتهم وطلابهم… ولا يُفلحون. لذلك هي بيئة يائسة.
أمّا القدرات فهي معدومة: بلد مُفلس. خزينة فارغة. اقتصاد مدمّر. قطاع مصرفيّ مُنهار. قطاع تجاري مُقفَل. عملة وطنيّة تفقد كلّ يوم من قيمتها. حكومة تصريف أعمال فاشلة. وحكومة عتيدة لن تُشكّل… وعهد مشؤوم شارف على نهايته. وماذا عن الجغرافيا؟
لبنان بحاجة إلى عناصر قوّة لبنانيّة في مفاوضات ترسيم الحدود. لكنّه فقدها بسبب الإدارة السيّئة والمرتبكة والمنقسمة لهذا الملف
تقلّص الجغرافيا
3- تتقلّص الجغرافيا على ما يُسمّى “محور المقاومة” يوماً بعد يوم:
– في سوريا اللاعب القويّ روسيا. تركيا تسيطر على قسم من شمال البلاد إضافة إلى إدلب. الأميركيون يسيطرون على الشرق. وإسرائيل تقصف مواقع حزب الله والحرس الثوري الإيراني في كلّ مكان في سوريا. اللافت أنّ الحزب والحرس لا يجرؤون على الردّ!
– في العراق أثبتت الانتخابات النيابية منذ عشرة أشهر أنّ الجغرافيا لم تعُد إيرانية. فالشيعة المناهضون للنفوذ الإيراني أكثريّة.
– أمّا في اليمن، فشل الحوثيّون في السيطرة عليها بمساعدة حزب الله وإيران.
– والجغرافيا الفلسطينية مُنهَكة أكثر من الجغرافيا اللبنانيّة، وغير قادرة على إطلاق أكثر من بضعة صواريخ تعود على أبناء غزّة بمزيد من الدمار والفقر والجوع.
4- يضيف السيّد نصرالله أنّ “مسألة ترسيم الحدود مصيرية، وهي الطريق الوحيد لإنقاذ لبنان وشعبه”. كلام شعبويّ للتعمية على الحقيقة. فنزويلا تملك أوّل احتياط نفطي في العالم، وشعبها جائع. وإيران تملك احتياطات كبيرة من النفط والغاز، وشعبها جائع أيضاً. وسوريا تملك النفط والغاز في البرّ والبحر، وشعبها جائع. لذلك لا يكون إنقاذ الشعب اللبناني باستخراج النفط والغاز فقط، إنّما بتخلّي الحزب عن منظومته العسكريّة والأمنيّة، ورحيل المنظومة الحاكمة الفاسدة، وإعادة بناء دولة قويّة بمؤسّساتها وجيشها وشعبها، وأولاً ودائماً بعودة لبنان إلى بيئته العربيّة، وإلى المجتمع الدوليّ. إنّها خارطة الطريق لخلاص لبنان وشعبه. خلاف ذلك، سيزيد استخراج النفط والغاز، لو حصل، من تأثير نار “جهنّم” على اللبنانيين.
حصار إيراني
5- يستعيد السيّد سرديّته عن “الحصار المفروض على لبنان” بقوله إنّ “هناك من يريد لهذا الشعب أن يموت جوعاً وأن نقتل بعضنا على أبواب الأفران ومحطات البنزين”. إذا كان من حصار مفروض على لبنان فسلاح الحزب وانخراطه في حروب المنطقة وخطابه العدائي ضدّ زعماء دول المنطقة هو من استجلب هذا الحصار. وإذا كان من حصار مفروض على الحكومة اللبنانيّة فهو بسبب سيطرة الحزب على قرارها، وبسبب إدارتها من قبل منظومة لا تريد القيام بالإصلاحات للحصول على المساعدات من المؤسّسات الدوليّة والدول المانحة.
إقرأ أيضاً: لسنا حماة الثغور في الجمهوريّة الإسلاميّة ولن نكون
لبنان بحاجة إلى عناصر قوّة لبنانيّة في مفاوضات ترسيم الحدود. لكنّه فقدها بسبب الإدارة السيّئة والمرتبكة والمنقسمة لهذا الملف. عنصر القوّة الإيرانيّ يُدخل الملفّ في الصراع الإقليميّ. وفي كلّ الاحوال لم يعُد عنصر قوّة لأنّ المشروع الإيراني في المنطقة دخل “مرحلة الشيخوخة”، ليس فقط لأنّ المرشد الأعلى لهذا المشروع بلغ الثالثة والثمانين من العمر، بل لأنّ الأنظمة العقائدية والشموليّة تشيخ وتموت سريعاً، خاصّة إذا كانت مشاريعها التوسّعية لا ترتكز إلا على القوّة العسكريّة ومشاريع الحروب والدمار والموت، فلا ترتكز على التاريخ ولا الجغرافيا، وتفتقر إلى الخطط الاقتصادية والاجتماعيّة لازدهار الشعوب. لذلك فإنّ تهديدات نصرالله فاقدة لعناصر القوّة، لا بل ضعيفة.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية