لسنا حماة الثغور في الجمهوريّة الإسلاميّة ولن نكون

مدة القراءة 7 د

اقتطع الأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله في كلمته الأخيرة أول من أمس جزءاً من المشهد الدولي/الإقليمي المرتبك والمتردّد أمام خيارات هي الأكثر حراجة منذ انتهاء الحرب الباردة. لا يقتصر الارتباك والتردّد على الجمهورية الإسلامية التي يشكّل حزب الله أحد أهمّ استثماراتها في العالم العربي، فالرئيس الأميركي، الذي يزور إسرائيل ثمّ المملكة العربية السعودية، مرتبك أيضاً بين مواقف أعلنها سابقاً ويحاول الالتفاف عليها، مع الإبقاء على الحدّ الأدنى من احترام الأميركيين لإدارته، وإسرائيل بدورها مربكة، والقادة الأوروبيون ودول شرق آسيا مربكون. يقف العالم برمّته على أبواب مرحلة جديدة يتعذّر ترسيم معالمها.

يقول نصرالله إنّ “الرئيس الأميركي العجوز هو صورة عن أميركا التي دخلت مرحلة الشيخوخة”. هذا كلام صحيح وفي محلّه، لكنّ الأصحّ أنّ كلّ الأيديولوجيات والدول والسياسات التي لم تستطع الخروج إلى الفضاء المجتمعي الأوسع وبقيت أسيرة طرائق الاستبداد وإثارة الغرائز دخلت مرحلة الشيخوخة أيضاً، ومنها الجمهورية الإسلامية في طهران، وأنّ كلّ الامتدادات التي تندرج تحت الإسلام السياسي الذي رعته وقادته وموّلته الولايات المتّحدة الأميركية والفكر الاستعماري الغربي هي أيضاً في طور السقوط.

يخطئ نصرالله في اعتبار مقاومته هي نقطة قوّة للبنان، فنقاط قوة لبنان هي في مقاومة يصطفّ أبناؤه خلفها وليس في ميليشيا مسلّحة

يضيف نصرالله أنّ زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة هي نسخة جديدة من مشروع الشرق الأوسط الجديد، وأميركا اليوم هي غير أميركا 2003، وهذا صحيح أيضاً. فالرئيس الأميركي يأتي إلى المملكة العربية السعودية مكرَهاً ومستغيثاً بعد موقفها الثابت من تهميش واشنطن للتهديدات الأمنيّة التي تعرّضت لها دول الخليج، وبعد رفض المملكة الاستجابة لطلبات رفع مستوى الصادرات النفطية إلى أوروبا. أمّا في ما يتعلّق بمشروع الشرق الأوسط الجديد فالولايات المتّحدة متمسّكة به، وما زالت تراهن على النجاح في تفتيت المنطقة، وليس ما تقوم به إيران في لبنان وسوريا والعراق سوى إمعان في الشراكة الأميركية الإيرانية لتفتيت المنطقة.

أليس صمود حلفاء طهران في اليمن هو النتاج المنطقي لتحكّم الولايات المتّحدة بقواعد الاشتباك في الحُديدة وسواها، وتعيين الوسطاء الدوليين الذين لا مهمّة لهم سوى إضاعة الوقت وحصر دخول المساعدات الإنسانية والطبية إلى اليمن عبر الميليشيات المتحالفة مع طهران؟ أليست مشاريع التسويات السياسية التي يفشّلها الأميركيون دليلاً على الرعاية الأميركية الواضحة للدور الإيراني في المنطقة، وعلى تغليب هذا العبث على الاستقرار؟ أوليس كلّ ذلك في خدمة مشروع تحالف الأقليّات الذي يقوم عليه مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ ألا يشبه التكافل الإيراني الأميركي في سوريا والعراق واليمن حركة الهجرة والاستيطان التي قام بها الأوروبيون بعد اكتشافهم للقارّة الأميركية حين اقترنت إبادة السكّان الأصليّين برؤية توراتيّة علمانيّة، حيث اعتبر المتديّنون من البروتستانت أنّهم في مهمّة مقدّسة لتطهير الأرض، واعتبر العلمانيون أنّهم قدِموا لإزاحة “الهمج” من طريق العقلانية والتنوير؟

 

النفط لإنقاذ الميليشيات

أمّا في الحيّز اللبناني المتعلّق بترسيم حدود لبنان البحرية لاستثمار النفط والغاز باعتبارهما مخرجاً من الأزمة الاقتصادية، فيحدّد نصرالله المهلة المتاحة حتى نهاية أيلول وإلّا فالأمور ستتّجه نحو الأصعب، متّهماً الوسيط الأميركي بالانحياز، مختصراً نقطة ضعف العدو في حاجته إلى النفط والغاز ونقطة قوّة لبنان الوحيدة في مقاومته التي تستطيع التعطيل، داعياً المسؤولين في لبنان إلى الاستفادة من هذه المقاومة. البديهيّات التي تطرح نفسها هي: لِمَن يوجِّه نصرالله هذه التوصيات أو الفرضيّات؟ للولايات المتّحدة أم لإسرائيل؟ هي بالطبع رسائل إيرانية كُلِّف بنقلها. ثمّ ما هي الآليّات المتاحة؟ ومن يمتلك المبادرة للسير بها؟ بكلّ تأكيد ليس مجلس الوزراء اللبناني؟؟!! أم هي مجموعة تحذيرات من قَبيل رفع العتب قُبيل بلوغ استحقاق لا بدّ منه؟

صحيح أنّ استخراج النفط والغاز يدرّ مليارات الدولارات على الدولة اللبنانية من دون أيّة ديون خارجية. وهو طريق الإنقاذ الوحيد للبلد، لكنّه في الوقت عينه طريق الإنقاذ لميليشيات لم تُبقِ في لبنان أيّ شيء ليس على المستوى المالي والاقتصادي فحسب، بل على مستوى مفهوم الإدارة والمصلحة العامّة وفكرة الدولة، ودائماً لمصلحة انتماءات بدائيّة دون المذهبية تقتات من مرجعية دمجت الاجتهاد بثأريّة أساسها التناحر العرقي وعِقَد التاريخ والجغرافيا، وها هي اليوم تأكل أبناءها.

إنّ مَن اعتبر آموس هوكستين وسيطاً نزيهاً هم القوى السياسية المنضوية خلف حزب الله. من أعطى الصدقيّة لهوكستين هو إطار التفاوض الذي أطلقه الرئيس نبيه برّي وصمت الحزب حينها من دون أيّ تعليق عليه. ثمّ صرّح نصرالله أنّه يقف خلف رئيس الجمهورية وله كامل الثقة به لاستكمال المفاوضات، فهل كانت طهران تنتظر مكافأة على موقفها؟ وهل مهلة الشهرين هي المهلة التي ستُعلن في نهايتها حرب الـ 2006 بنسختها الجديدة؟

يخطئ نصرالله في اعتبار مقاومته هي نقطة قوّة للبنان، فنقاط قوة لبنان هي في مقاومة يصطفّ أبناؤه خلفها وليس في ميليشيا مسلّحة تقتادهم بقوّة السلاح إلى محور نفوذ إقليمي وإلى المشاركة في اقتتال مع مصدر قوّتهم، أجل مع مصدر قوّتهم، وهو محيطهم وانتماؤهم العربي، وهو عمقهم الاستراتيجي في الاقتصاد والثقافة والسياسة والأمن.

أمّا المسيّرات التي ظهر ارتباك كبير في تبرير إطلاقها وإسقاطها المنتظر لكي يعلم العاملون في المنطقة أنّها ليست آمنة، فالحقيقة أنّها لم يستفِد منها ولم يُبقِها قيْد التداول والاستثمار والبناء عليها سوى العدوّ الإسرائيلي، وهو ما يعني أنّ هناك عدم وضوح في تقاطع المصالح الإيرانية الإسرائيلية على حدود كاريش، وأنّ مرحلة ما بعد كاريش وما بعد بعد كاريش هي المصطلح التقني للتلاقي الإيراني الأميركي في خضمّ الانتحار الذي تخوضه الولايات المتّحدة لتغيير العالم بوسائل وأيديولوجيات يبدو أنّها فقدت صلاحيّتها.

 

خيار الحرب إيرانيّ

في خيار الذهاب الى الحرب الذي يعتبره نصرالله أنّه أشرف من الاقتتال والوقوف بالطوابير، فإنّ محور الممانعة يدرك أنّ شبكات التهريب، التي يرعاها حزب الله والطبقة الفاسدة التي طالما حماها، هي التي أوصلت اللبنانيين إلى الوقوف بالطوابير، وإنّ خيار الذهاب للحرب هو خيار إيراني متّصل بالشراكة الإيرانية الأميركية التي يعبّر عنها الأميركي بخطاب مضلِّل لا يقارب العبث الإيراني باستقرار المنطقة بالجدّيّة المطلوبة، بل يتيح لطهران مجالات التصرّف بما تبقّى من أشلاء دول في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وهو خيار لا يمكن لبننته.

معادلة حيفا وما بعد بعد حيفا كانت نتيجتها انتشار 12 ألف جندي على الحدود الجنوبية لضمان أمن إسرائيل، وتفرُّغ طهران لوضع اليد على لبنان عبر حزب الله. الموقف الجديد الذي أراد الأمين العامّ تسميته بكاريش وما بعد بعد كاريش هو جولة جديدة من جولات التمدّد الإيراني، لكن هذه المرّة على الجبهة البحرية التي لا يشملها القرار 1701، والنهاية التي يمكن استقراؤها بسهولة هي: سيناريو 2006 بنسخة بحريّة هذه المرّة، وتعديل القرار 1701، وربّما استصدار قرار جديد يحمي المنطقة الاقتصادية الخالصة للعدوّ، ويتيح لحزب الله وطهران من خلفه وأمامه القبض أكثر فأكثر على ما تبقّى من جممهورية الفساد التي ترعرعت في ظلّ السلاح.

إقرأ أيضاً: الاستراتيجية الدفاعيّة الوطنيّة (1): إشكاليّة وطنيّة قابلة للنقاش

ربّما ستتبيّن الأسابيع المقبلة عن حراجة متصاعدة في الموقف على الحدود البحرية، ولا سيّما مع الفشل المرتقب للقاءات بايدن في السعودية، فما أراد نصرالله اعتباره شأناً لبنانياً أضحى حيّزاً إيرانياً على الجغرافيا اللبنانية المغتصَبة، فهل تنجح إيران في تحويل الجنوبيين إلى حماة ثغور في الجمهورية الإسلامية؟

 

* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…