اختار فلاديمير بوتين أن يردّ على زيارة جو بايدن لإسرائيل والضفّة الغربية والسعودية، بعقد قمّة ثلاثيّة روسية تركية إيرانية في طهران. ولحقه تهديد الأمين العامّ لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله أمس بالحرب في مسار الاصطفافات الجديدة التي يُمليها صراع أميركا وأوروبا مع روسيا التي ازدادت اقتراباً من إيران.
وفق المتّصلين بموسكو فإنّ هذا هو الهدف أو البعد الأوّل لاجتماع الرئيس الروسي مع الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان والإيراني إبراهيم رئيسي في العاصمة الإيرانية، في 19 الجاري، بعد ثلاثة أيام على اختتام بايدن زيارته للمنطقة وإجرائه محادثات مع كبار المسؤولين السعوديين والخليجيين وزعماء مصر والأردن والعراق الذين سينضمّون إلى الاجتماع معه.
ملاءمة التحرّكات السياسية مع تداعيات أوكرانيا
بالطبع لم يُشِر الإعلان عن القمّة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية إلى هذا البعد، بل اقتصر على الإشارة إلى أنّها ستناقش الوضع في سوريا، ولا سيّما التباين في وجهات النظر بين كلّ من موسكو وطهران مع أنقرة في شأن إعلان الأخيرة منذ أواخر أيار الماضي اعتزامها القيام بعملية عسكرية واسعة في الشمال السوري لتوسيع المنطقة الآمنة بعمق 30 كيلومتراً من الحدود، قال إردوغان إنّها تستهدف ملاحقة القوات الكردية التي تسيطر على جزء واسع منها بقيادة حزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابياً لدى الجانب التركي، ولإعادة مليون لاجئ سوري في تركيا بعد إنشاء بنية تحتية تمكّنهم من العودة.
اختار فلاديمير بوتين أن يردّ على زيارة جو بايدن لإسرائيل والضفّة الغربية والسعودية، بعقد قمّة ثلاثيّة روسية تركية إيرانية في طهران
إلا أنّ احتدام الصراع بين واشنطن وموسكو منذ حرب أوكرانيا إلى حدّ لامس المخاوف من حرب عالمية، أدّى إلى ملاءمة كلّ منهما تحرّكاتها الدبلوماسية مع مقتضيات هذا الصراع. تتعلّق الأولويّة على أجندة محادثات بايدن خلال زيارته للمنطقة بأحد تداعيات الحرب في أوكرانيا، ونتائج هذا الصراع مع الدبّ الروسي، ولا سيّما محادثاته في السعودية. هذه الأولوية، كما بات مسلًّماً به، هي إيجاد بدائل للنفط والغاز الروسيّين اللذين تستهلكهما أوروبا، من دول الخليج، بعدما حالت العقوبات الأميركية والأوروبية دون التزوّد بهما من موسكو، التي ردّت عليها بتقليص كميّات الغاز التي تزوّد بها عدداً من الدول الأوروبية واشتراط بوتين دفع ثمنه بالروبل الروسي. وهذا ما ساهم في تهديد الصناعات الأوروبية التي تحتاج إلى الطاقة الروسية، وأطلق هواجس حيال نقص الغاز المستعمل في التدفئة في القارّة العجوز خلال فصل الشتاء البارد. ويولي الجانب الأميركي أهمية قصوى لطلب رفع سقف الإنتاج النفطي السعودي والإماراتي من أجل خفض الأسعار العالمية، بعدما ساهم ارتفاعها، إضافة إلى الأزمة الغذائية، في تضخّم غير مسبوق في الاقتصادات الغربية، وخصوصاً في الولايات المتحدة.
حصّة إسرائيل من الغاز لأوروبا
لإسرائيل حصّة في توفير الغاز البديل لأوروبا، بعد مذكّرة تفاهم أوروبية إسرائيلية مصرية للتزوّد بالغاز الإسرائيلي المتوقّع بدء استخراجه من حقل “كاريش” في أواخر أيلول المقبل. وليس صدفة أنّ الحليف الأساسي لطهران، “حزب الله”، هدّد على لسان نصر الله باستهداف هذا الحقل وغيره أمس. وبهذا المعنى فإنّ لطهران دوراً في معاكسة الجهد الأميركي لتوفير البدائل عن الغاز الروسي، في وقت يجري التضييق على إنتاجها وتسويقها للغاز الذي تنتجه أو القادرة على رفع إنتاجه في حال رفع العقوبات الأميركية عن قطاع الطاقة الإيراني. وكان نصر الله واضحاً بقوله ليل الأربعاء، بالتزامن مع وصول بايدن إلى إسرائيل، إنّ زيارة الأخير هي في سياق العمل من أجل نسخة جديدة للشرق الأوسط الجديد، الذي تحدّثت عنه وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس إبّان حرب تموز 2006.
وفي حين أنّ أولويّة ما نجم عن حرب أوكرانيا خلال محادثات الرئيس الأميركي لا تلغي مسائل شائكة أخرى منها طمأنة إسرائيل ودول الخليج إلى عزمه منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، فإنّ أمامه شوطاً طويلاً من المحادثات لمعالجة التباينات مع تل أبيب والرياض في شأن ما تعتبرانه تساهل الإدارة الديمقراطية مع توسّع النفوذ الإيراني في المنطقة.
محفِّزات موسكو لوسطيّة تركيا
صار كلّ شيء متّصلاً بمضاعفات الحرب في أوكرانيا، إذ تقيس دول الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، العلاقة مع دول المنطقة بمدى وقوفها إلى جانبها ومع أوكرانيا، أو انحيازها إلى موسكو، معتبرة أنّ القيادة الروسية تسعى إلى الهيمنة على أوروبا انطلاقاً من السيطرة على المجال الحيوي الأوكراني، والبحر الأسود، والدول المجاورة. ويسعى القطبان العالميّان إلى تثبيت مواقعهما وتحالفاتهما في المنطقة في هذا السياق، في ظلّ تقسيمهما العالم إلى “فسطاطين”. ويتمسّك بوتين بتحالفه مع طهران بعدما بات تجديد الاتفاق النووي بعيد المنال، إذ إنّ فشل المفاوضات يزيد من ضغوط واشنطن على طهران ويدفع هذه الأخيرة إلى التعاون مع موسكو، ومن جهة أخرى يواصل سياسة تحييد تركيا على الرغم من عضويّتها في الناتو، والإبقاء على دورها الوسيط في الحرب التي يخوضها في أوكرانيا، ولا سيّما أنّها معبر مهمّ من البحر الأسود إلى الشرق الأوسط، وبالتالي إلى سوريا التي تحوّلت إلى قاعدة عسكرية رئيسة متعدّدة الوظائف لروسيا.
ومع أنّ أنقرة التزمت بمنع مرور الطائرات الروسية في أجوائها، فاضطرّت إلى الانتقال إلى سوريا لاعتماد خط بعيد ومكلف، وأوقفت عبور البحرية الروسية وسائر السفن الحربية التابعة للناتو من البوسفور إلى المتوسط، فإنّ الجانب الروسي يعمل على تقديم حوافز للجانب التركي من أجل لعب دور سياسي واقتصادي مقابل موقفه الوسيط والحيادي.
وكما أنّ تركيا أحد المنافذ الدبلوماسية مع أوكرانيا وتلعب دور الوسيط بين الدولتين في المحادثات من أجل وقف الحرب، فهي الوسيط أيضاً في معالجة بعض التداعيات الاقتصادية للحرب، سواء لأنّها معبر الغاز إلى أوروبا، أو معبر الحبوب الروسية والأوكرانية إلى سائر دول العالم، وخصوصاً الشرق الأوسط. وهي تستضيف المحادثات الروسية الأوكرانية مع الأمم المتحدة، المتعلّقة بتصدير الحبوب.
إحياء صيغة آستانا لمنع إضعاف الأسد؟
في انتظار اتّضاح نتائج زيارة بايدن، ولا سيّما في السعودية، تعمل موسكو من خلال قمّة طهران على هدفين:
– الأول إبقاء أنقرة بعيدة عن التزام كلّ العقوبات الأوروبية عليها.
– الثاني كبح هجوم إردوغان المزمع على شمال سوريا، الذي يضعف حليفها بشار الأسد أكثر ممّا هو ضعيف، ويزيد إرباكها في بلاد الشام. وكانت موسكو قد أبلغت أنقرة أنّ هذا الهجوم يخلّ بالتوازن القائم حالياً، ويدفع الأكراد نحو التعاون مع النظام السوري (لعبت موسكو دوراً في الاتصالات بينهما في الأسابيع الماضية)، وهو ما ليس في مصلحة أنقرة إذا تلقّى النظام دعماً من موسكو وطهران، في ظلّ الخلاف التركي مع أميركا على هذه العملية. وتُعتبر زيارة الأسد لحلب خلال عيد الأضحى إشارة روسية إلى تركيا بهذا المعنى. ويُنتظر حصول لقاء ثنائي بين بوتين وإردوغان لهذا الغرض قبل القمّة الثلاثية، مقابل لقاء مماثل مع رئيسي، في سياق سعي موسكو إلى تجنّب خلافات حادّة في الإقليم مع ثلاث دول هي تركيا وإيران وإسرائيل، ولا سيّما في سوريا، (على الرغم من خلاف موسكو مع تل أبيب على قصف مطار دمشق) منعاً لإفادة الجانب الأميركي من أيّ خطوات ضاغطة على الوجود الروسي فيها ربطاً بامتداد الصراع في أوكرانيا. فللدول الثلاث دور مهمّ على الساحة السورية، وهي تتقاسم النفوذ فيها. ومن ناحيتها تتحسّب موسكو، بإحيائها صيغة آستانا التنسيقية مع طهران وأنقرة، لمعطيات عن جهود غربية وعربية لإحياء فكرة قلب الأوضاع في الجنوب السوري في محافظات درعا الواقعة على الحدود مع الأردن، والسويداء والقنيطرة حيث الحدود مع إسرائيل في الجولان المحتل، بالتعاون مع بعض فصائل المعارضة. ومن هنا حرصها على إبقاء الستاتيكو في الشمال.
في 5 و7 تموز قامت موسكو بإنزال 600 من المظلّيّين الروس في مطار القامشلي في محافظة الحسكة التي توجد فيها قوات أميركية، وفي ذلك إشارة إلى إمكان حصول احتكاك مع الجنود الأميركيين الذين يساهمون مع “قوات سوريا الديمقرطية”، التي عمادها المقاتلون الأكراد، في حماية النفط المستخرَج في المنطقة، في وقت تعاني مناطق النظام نقصاً حادّاً بالمحروقات ويضطرّ النظام السوري إلى استيرادها عبر تجديد خط ائتماني مع طهران منذ مطلع تموز. وقد جاء ذلك الإنزال الروسي في أعقاب التهيّؤ التركي للعملية العسكرية ومحاولة الدوريات الأميركية في المنطقة الدخول إلى بعض القرى، لكنّ موالين للنظام منعوها. وتعرّض حقل “العمر” النفطي (الأكبر في سوريا) في محافظة دير الزور الذي توجد قربه قاعدة أميركية لقصف تردّد أنّ مصدره الميليشيات الموالية لإيران. وخاضت موسكو معركة دبلوماسية في مجلس الأمن لكسر أميركا وبريطانيا وفرنسا بوضعها فيتو على قرار مجلس الأمن تمديد تمرير المساعدات الإنسانية إلى مناطق المعارضة السورية لمدّة سنة عن طريق معبر باب الهوى من دون المرور بدمشق، وفرضت التمديد لستّة أشهر فقط، وتمرير تلك المساعدات عن طريق الأردن والعراق، إضافة إلى تركيا، من أجل أن يكون لها وللنظام دور في توزيعها.
المراهنة على فشل بايدن في السعوديّة
تراهن موسكو على فشل زيارة بايدن للمنطقة، ولا سيّما في السعودية، نظراً إلى أنّ محطات التكرير والإنتاج في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تعمل في أقصى قدراتها، ولذلك لن تحقّق الزيارة غرضها النفطي، بل إنّ التبادل التجاري لبعض دول الخليج مع روسيا ازداد، وجزء منها أخذ يستقطب رساميل روسية هاربة من أوروبا. ويستدل الجانب الروسي من امتناع دول الخليج عن تطبيق العقوبات الغربية للتشديد على هذا التوقّع، ويبدي المسؤولون الروس ارتياحهم لمواقف عدد من الدول العربية الرئيسة، وينشط وزير الخارجية سيرغي لافروف في القيام بزيارات للمنطقة. فبعدما زار معظم دول الخليج، سيزور آخر الشهر الجاري القاهرة التي ارتفع التبادل التجاري معها ومع الأردن.
إقرأ أيضاً: بايدن: آخر الرؤساء الصهاينة؟
تشمل مراهنة الكرملين مواصلة السيطرة على الشرق الأوكراني ذات الأكثرية السكانية من أصل روسي، خلال الشهرين المقبلين، بعد التعديل في الخطط العسكرية التي لم تؤتِ ثمارها في الأسابيع الأولى من الحرب، فبات هجومه يركّز على الاستخدام الأقصى للمدفعية والصواريخ، على أمل إحكام السيطرة على منطقة دونباس، ثمّ على محافظة خاركوف ومدينة زاباروجا، انتهاء بمدينة أوديسا، لإقفال البحر الأسود على أوكرانيا. وفي اعتقاد القيادة الروسية أنّ التقدّم على الأرض يوازيه تصاعد التأزّم الاقتصادي في أوروبا ومزيد من انخفاض سعر اليورو مقابل تحسّن سعر الروبل، مع بداية فصل الشتاء الذي سيشهد انخفاضاً في مخزون الغاز للتدفئة.