للإعلام الإسرائيلي تأثير قويّ على الرأي العامّ الفلسطيني، وذلك بفعل قوّة أدواته واتّساع مجالات معالجاته، خصوصاً فيما يتّصل بالشؤون الفلسطينية الداخلية التي يقتصد الإعلام الفلسطيني الرسمي في معالجتها.
من ضمن القضايا، التي يلعب الإعلام الإسرائيلي دور المايسترو في إثارتها وتوظيفها بما يخدم أجنداته، قضية وراثة محمود عباس التي عنوانها المتداول “الصراع على الخلافة”. وحين لا يجد الفلسطيني في وسائل إعلامه ما يُشبع فضوله في هذه القضية التي تهمّه، فمن البديهي أن يُقبل بشغف ونهم على أيّ معلومة تتّصل بهذا الشأن وتأتيه من أيّ مصدر، فتتحوّل بلمح البصر إلى حديث البيوت والصالونات وحتى المؤسّسات بكلّ تخصّصاتها، بما في ذلك الوزارات والأجهزة الحكومية.
للإعلام الإسرائيلي تأثير قويّ على الرأي العامّ الفلسطيني، وذلك بفعل قوّة أدواته واتّساع مجالات معالجاته، خصوصاً فيما يتّصل بالشؤون الفلسطينية الداخلية التي يقتصد الإعلام الفلسطيني الرسمي في معالجتها
اللافت في الأمر أنّ الإعلام الإسرائيلي يحصر الصراع على خلافة عباس في إطار حركة “فتح”، ويطرح أسماء كما لو أنّه يطرح أسهماً في البورصة، ويضع وراء كلّ اسم مواصفات ومؤهّلات من مثل مَن ترضى عنه إسرائيل، ومَن تفضّله أميركا، ومَن يقبله الإقليم، ومَن يحظى بفرصة أقوى من غيره، ومَن يقترب من الموقع في حياة أبي مازن ومن يبتعد أو يُبعَد عنه… إلخ.
صراع مسلّح داخل فتح؟
ما يُخيف الفلسطينيين من إثارة هذه القضية على هذا النحو، هو الحديث عن الصراع كما لو أنّه سيكون مسلّحاً يُنذر بحرب فتحاويّة فتحاويّة تفضي إلى استحالة أن يصل أيّ من المتصارعين إلى سدّة الرئاسة. فكيف يصل أحد المتصارعين إذا كانوا منقسمين في عهد “التاريخي” عباس ولا فرص لأن يتوحّدوا في عهد “الجغرافي” الذي يُفترض أن يليه؟
يصوّر الإعلام الإسرائيلي الصراع على خلافة عباس كما لو أنّه صراع على زعامة “فتح” وليس على قيادة الفلسطينيين جميعاً. وقليلاً ما يُؤتى على دور المستقلّين الذين هم القطاع الأوسع والأكثر عدداً من منتسبي “فتح” وباقي الفصائل. ولا يُؤتى أيضاً على دور “حماس” التي فازت على “فتح” حين كانت الثانية موحّدة في عام 2006، فكيف هو الحال و”فتح” منقسمة على نحو علنيّ حتى إنّها تقدّمت بثلاث قوائم انتخابية في أيار حين كانت الانتخابات تبدو مصيرية بشأن وجودها ودورها.
حتى القائمة الرسمية التي تصدّرها عدد من أعضاء لجنتها المركزية فيها ما فيها من اختلافات ومنافسات تجعل من الفوز أمراً مستحيلاً. وما يُوصل الأمور وفق المعالجات الإسرائيلية إلى حوائط مغلقة أنّه لا يُؤتى على ذكر الانتخابات كمخرج من هذه الحالة المستعصية مع أنّها هي وحدها التي ستفضي إلى نتيجة واقعية يتحدّد من خلالها وزن كلّ واحد من المتصارعين في الشارع العريض.
الخوف من الفوضى الأمنية
يترك المايسترو الإسرائيلي حكاية مَن له فرصة محقّقة في الفوز لعلم الغيب، فلو طرح اسماً معيّناً فسيقضي مَن طرح اسمه العمر كلّه في الدفاع عن نفسه ونفي أن يكون مرشّح إسرائيل. والخلاصة من هذه الطريقة في المعالجة أنّ المواطن الفلسطيني يظلّ في حالة رعب ممّا سيواجه بعد غياب عباس، ليس خوفاً من شخصية معيّنة، وإنّما خوفاً من أن تتدحرج الأمور إلى صراع مسلّح كانت ساحته في وقت مضى غزّة، وفي ما سيأتي ربّما يكون البلد كلّه.
لا يتطرّق الإعلام الفلسطيني الضعيف أصلاً إلى هذا الأمر، ولا يُلام على ذلك لأنّ الوراثة ليست مسألة إعلامية، بل سياسية ويفضِّل صانع القرار أن يظلّ الأمر غامضاً وفق المقولة الدارجة “لكلّ حادث حديث” أو “بعد عمر طويل يخلق الله ما لا تعلمون”. وإلى أن يخلق الله ما لا نعلم يظلّ المايسترو الإسرائيلي يدير المعزوفة.
إقرأ أيضاً: روح شيرين أبو عاقلة… في زيارة بايدن للمنطقة
تعوّد الشعب الفلسطيني في عهد سلطتَيْ “فتح” و”حماس” على الغموض والقلق، وتعوّد أيضاً على أن يستقي المعلومات عمّا يجري في بلده من منابر غير فلسطينية، القليل منها موضوعيّ والكثير الكثير موجَّه حسب أغراض أصحاب الأجندات.
أمّا المواطنون الفلسطينيون فيتداولون الحكايات المُصدَّرة غالباً من إسرائيل، يدفعهم فضولٌ لمعرفة ما يجري ويملأهم قلقٌ من السيناريوهات المتوقَّعة، خصوصاً إذا ما عمّت الفوضى واستبدّ الفراغ. وهنا لا يسألون عن الفلسطيني الذي سيكون رئيساً، بل يسألون عن الإسرائيلي وماذا سيفعل.