“بديع، هشام انقتل”.
لم أصدّق!
بدا الصوت عميقاً. رفضه عقلي قبل أن يلفظه قلبي: “لا يُعقل، كفاك مزاح غير طريف!”.
مرّت سنتان كاملتان على اغتياله. كان مساء 6 تموز 2020 مختلفاً. نزل عليّ كالصاعقة خبر مقتل الباحث العراقي هشام الهاشمي. وصلني قبل أن يصل إلى عائلته، إلى زوجته وأطفاله الأربعة.
في البداية اعتقدت أنّها مزحة ثقيلة من أحد زملائي في قناة “الحدث”. كان يعلم مدى الصداقة والحماسة المهنية والتعاون اليومي بيني وبين هشام الذي كان سيفضي تلك الليلة إلى كشف النقاب عن عمل استنفد شهراً من الإعداد. إنّه دراسة تفضح بالأرقام والتفاصيل دور ميليشيات إيران داخل الحشد الشعبي بالعراق. كانت الحلقة جاهزة، وأوّل الضيوف كان هشام الهاشمي، إضافة إلى باقة من الشخصيّات، للحديث عن هذه الدراسة، وللكشف عنها أمام الإعلام العربي عموماً، والعراقي خصوصاً.
رحل هشام الصديق والزميل وبقيت أبحاثه. اغتيل هشام لأنّه كان وطنيّاً صادقاً، وكان صاحب فكر تحرّريّ فضّل الدولة على الدويلة، والجيش على الميليشيات، والأمن القوميّ على الإرهاب، والحرّية على القمع
تسمّرت ولم أصدّق بدايةً، حتّى لون وجه صديقي تغيّر حين أراني فيديو لحظة الاغتيال. انقبضت أنفاسي لدقائق، واستشعرت أنّني أمام مفترق طرق يحتاج إلى قرار سريع. هل نلغي الحلقة ونستسلم للقاتل ولنواياه قتل الباحث هشام؟ كنّا بين خيارين: تحويل القصّة إلى قضية “اغتيال” والانتقال من “فضح” ميليشيات إيران إلى “اغتيال هشام” والتركيز على الخبر نفسه… أو السير بالحلقة وكأنّ هشام “لم يُقتل” ونشر الدراسة والسير بالخطة المتّفق عليها مع هشام وفاءً لهذا الصديق المناضل من أجل الحرية.
يومها لم يتغيّر من الحلقة سوى المقدّمة الأساسية:
“قبل ساعتين من الآن، وقبل أن يصل الصديق والزميل هشام إلى الاستديو في بغداد وبيده الدراسة التي تفضح نشاط النظام الإيراني الميليشياوي في العراق، سابقت يد الغدر الزمن واغتالت هشام، لكنّها لن تغتال أبحاثه ودراساته ووطنيّته. لن تتوقّف هذه الحلقة، وستستمرّ روح هشام فيها، وإذا كانت قد أخافتهم الدراسة بتفاصيلها وأدلّتها، فها هي ستكون محور ساعتين بدل ساعة واحدة كانت مخصّصة لها”.
فضح ميليشيات إيران
رحل هشام الصديق والزميل وبقيت أبحاثه. اغتيل هشام لأنّه كان وطنيّاً صادقاً، وكان صاحب فكر تحرّريّ فضّل الدولة على الدويلة، والجيش على الميليشيات، والأمن القوميّ على الإرهاب، والحرّية على الظلم والقمع. فهشام سُجِن في عهد صدّام حسين وتحرّر من الأسر عام 2002 ودفع ثمن تحرّره الفكري الذي لن تغتاله الأيادي السود، بل سيبقى طيفه في فضاء الأبحاث والدراسات التي تناهض الإرهاب والميليشيات.
هناك تسميات كثيرة تُطلَق على هشام. يسمّيه البعض “المحلّل”، وهو فعلاً كان المحلّل الأجدر بدراسة المجموعات المسلّحة غير القانونية. آخرون يصفوه بـ”المستشار”، إذ كان يقدّم المشورة للمسؤولين
من أبرز ما أزعج الميليشيات وكان محور الدراسة هو تفصيلها بالأرقام الفروق بين الولائيّين لإيران وأولئك الموالين للسيستاني في صفوف الحشد، وتسليطها الضوء على الصراع بين قم والنجف. وهذا ما خافوه. كان يشرح الهاشمي كيف تراوغ أجنحة الحشد، مستغلّة القانون الذي ضمّها قبل أكثر من سنتين إلى القوات العراقية. إلا أنّ تلك الفصائل تتبرّأ من القوانين وسلطة الدولة عندما تنفّذ عمليات خارج البلاد، وتقاتل في سوريا وغيرها، أو تطلق صواريخ كاتيوشا باتجاه قواعد عسكرية تضمّ قوات أميركية أو قنصليات ومراكز دبلوماسية. حينئذٍ تتحوّل إلى فصائل ومجموعات وميليشيات موالية لإيران، أي مجموعات تابعة لـ”اللادولة”، بحسب الهاشمي. كان يوضح قائلاً إنّ تلك “المجموعات تعتبر نفسها ضمن الحشد وألويته، وبالتالي تابعة للدولة حين تحتاج إلى تمويل أو حماية من الملاحقة القضائية أو غيرها، لكنّها سرعان ما تتحوّل إلى “اللادولة” حين تطلق الصواريخ وتقاتل خارج الحدود أو تستعرض عسكريّاً”. وخلص إلى أنّ “هذه الثنائية بين الدولة واللادولة هي التي تحكم عمل تلك المجموعات”.
المحلّل والمستشار
هناك تسميات كثيرة تُطلَق على هشام. يسمّيه البعض “المحلّل”، وهو فعلاً كان المحلّل الأجدر بدراسة المجموعات المسلّحة غير القانونية. آخرون يصفوه بـ”المستشار”، إذ كان يقدّم المشورة للمسؤولين، ومنهم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وللعسكريين. لكن قد يكون الوصف الأفضل له هو “الباحث” الأكثر خطورة على من يريد أن يطمس الحقيقة في العراق. كان يبحث عن خفايا شبكات المجموعات المسلّحة. كان شديد الدقّة والصدق والأمانة والمعرفة في شرح ما يحدث في البلاد. كان الهاشمي قد اختصّ في مجال دراسة وتحليل المجموعات الإرهابية، وخاصّة تنظيمَيْ “القاعدة” و”داعش”، لكنّه في السنوات الأخيرة من عمله اهتمّ بالميليشيات. شخّص الهاشمي حالة الانفلات لدى المجموعات المسلّحة في العراق، فرأى أنّ البعض منها متحالف مع مسؤولين يتبوّؤون مناصب رسمية في الدولة، والبعض الآخر مدعوم ومتحالف مع إيران. جَرُؤ على تشبيه تلك الجماعات بـ”المجموعات الإرهابية”، موضحاً أنّ إجرام تلك المجموعات لا يقتصر على طائفة دون أخرى.
إقرأ أيضاً: في ذكرى رحيل السيّد فضل الله: مبادرات “حوار داخلي”
اغتيل هشام الهاشمي أمام منزله في بغداد مساء 6 تموز 2020. انتشر تسجيل يُظهر لحظة بلحظة الجريمة التي هزّت العراق وكلّ من يهتمّ بشأنه. قُتل هشام وعمره 47 عاماً. كان له 4 أطفال، وكان عشرات من الشباب يعتبرونه أباً روحيّاً لهم. جاء الاغتيال فيما كانت الحركة الاحتجاجية في العاصمة وعدد من المحافظات العراقية تتصاعد مؤدّيةً إلى استقالة رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي، وبعد أسابيع قليلة سُمّي مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء.
في الجزء الثاني غداً:
دور حزب الله العراقي