قبل وصوله إلى المنطقة منتصف الشهر الحالي، منح الرئيس الأميركي جو بايدن الوفد المفاوض الممثّل للإدارة في واشنطن برئاسة روبرت مالي، واللوبي الإيراني ضمن الحزب الديمقراطي الحاكم، فرصةً جديدةً، في الدوحة بقطر، لاختبار صحّة توقّعاتهم للتجاوب الإيراني بالعودة إلى طاولة المفاوضات وإنهاء التباعد في وجهات النظر بعدما راهنت هذه القوى على تفهّم طهران لمصالحها العمليّة السياسية والاقتصادية.
تضغط هذه القوى النافذة داخل الإدارة وفي مجلس الأمن القومي وفي “السي آي إي” للوصول إلى اتفاق مع طهران بـ”أيّ ثمن”، لاعتقادها أنّ توقيع اتفاق مع إيران شبيه باتفاق 2015، و”لو كان سيّئاً، هو أفضل من أيّ حل آخر للمسألة النووية الإيرانية”.
تحصر هذه القوى المتناغمة مع اللوبي الإيراني في الداخل الأميركي الخلاف بوجهات النظر التقنيّة (بعيداً عن تلك السياسية والاستراتيجية) المتّصلة بدرجة التخصيب ووزن اليورانيوم والبلوتونيوم المخصّبين وعدد أجهزة الطرد المركزي ومراكز التخصيب المعلنة من قبل النظام الإيراني. أمّا وزارة الدفاع الأميركية وأجهزة مخابراتها العسكرية فلا تجاري وجهة النظر هذه التي يغلب عليها الطابع التقني، بل تعتبرها قاصرة عن معالجة الصورة البانورامية الكاملة للأزمة مع إيران.
لن تغيّر طهران إيديولوجيّتها في سعيها إلى امتلاك السلاح النووي وتطوير صواريخ باليستية. ولن توقف إنتاج الدرونز واستعمالها للاعتداء على جيرانها
مرّة بعد أخرى يتجاوب الوفد الأميركي المفاوِض، وآخر تجاوباته حلوله طرفاً في مفاوضات الدوحة بعدما سعى سابقاً في مسقط من دون أن يلقى النجاح، وبعد سبع جولات مضنية من المفاوضات في فيينا لم تصل إلى التجاوب الإيراني المطلوب.
منح الرئيس بايدن هذه الفرصة الإضافية لطهران لاعتقاده أنّها التقطت إشارات بيان مؤتمر الدول السبع الذي انعقد في بافاريا الألمانية، والذي تعهّدت فيه مجموعة السبع في بيان علنيّ صادر رسميّاً عن مقرّرات القمّة بأنّها “ستمنع إيران من أن تصبح دولة نووية”.
الملالي لا يهتمون
لكن بعد انفضاض اجتماعات الدوحة التي استمرّت يومين من دون التوصّل إلى اختراق في الجدار الذي سمّكته طهران، تبيّن أنّ حكم الملالي لا يُعير البراغماتية أيّ اهتمام، ولا يصغي إلى النداءات العالمية ولا التحذيرات الصادرة عن الدول المؤثّرة في النظام الدولي، لا بل ما زال حكم طهران يتمترس خلف إيديولوجيّته الساعية إلى الحصول على سلاح نووي، معتقداً أنّه بذلك يعزّز استمراريّة النظام وديمومته وقوّته، ويُدخله النادي النووي الدولي بما يوفّر له المزيد من القدرة على التدخّل في شؤون دول المنطقة.
لم يقتصر بيان القمّة في قصر إلماو في بافاريا على تحذير طهران من امتلاك سلاح نووي، إنّما دعاها إلى “وقف عمليّاتها المتعلّقة بالصواريخ البالستية وتهديداتها للملاحة البحرية”. وتُرجم هذا التحذير الواضح من خلال عقد جلسة مفتوحة لمجلس الأمن لبحث التطوّرات النووية الإيرانية إثر البيان الصادر عن كلّ من بريطانيا وفرنسا وألمانيا الذي دعا إلى اللجوء إلى إعادة تفعيل العقوبات الأمميّة أو ما يُعرف بآليّة “الزناد”Snap Back، في حين يعاني الاقتصاد الإيراني من أزمات ماليّة ونقدية وتجارية وعجز في المدفوعات وتعثّر في التصدير وكساد وعدم نموّ في الصناعات على أنواعها، دفعت إلى اتّساع مروحة النضالات المطلبية التي شملت أغلب الفئات الشعبية والقطاعات المنتجة في طول إيران وعرضها.
يتّهم كلّ فريق الآخر بعدم التجاوب مع المقترحات، ويدّعي كلّ منهما أنّ “الكرة في ملعب الآخر”، فتزعم إيران أنّ الأميركي يراوغ، وأنّها مستعدّة لأن توقّع خلال 24 ساعة إذا تمّت تلبية شروطها .
يطلب كلّ فريق من الآخر أن يتّخذ “القرار”، إذ إنّ “جوهر الخلاف يتوقّف على قرار”. فإذا كان شرط الضمانات المطلوبة من إيران غير مفهوم لأنّه يطلب ويفترض تعديلاً في الدستور الأميركي وتعديلاً في النظام الرئاسي ويقيّد أيّ رئيس مقبل، أكان جمهورياً أو ديمقراطياً، في الالتزام بعدم الخروج من الاتفاق النووي… ويبقى أن نتذكّر أنّ ما دفع الرئيس السابق دونالد ترامب إلى الانسحاب من اتفاق 2015، هو عدد الانتهاكات التي ارتكبتها إيران لهذا الاتفاق، وكميّة التجاوزات التي مارستها طهران لهذا “الاتفاق السيّء” وللقرار الأمميّ الصادر عن مجلس الأمن الرقم 2231 الذي قيّد إيران بغية الحفاظ على السلم والأمن الدوليّين. كانت الكرة والقرار وما زالا في ملعب طهران التي انتهكت الاتفاق كما القرار الأممي. فالمنشود هو التقيّد بالقانون الدولي ومعاهدات عدم انتشار السلاح النووي من نظام طهران قبل أيّ شيء .
مشكلة الدول الكبرى أنّها تتعامل مع الملفّات من منظار أحاديّ
إيران تريد “النووي”
لربّما توصّلت واشنطن وعواصم أوروبا الثلاث، ومعهم قادة الاتحاد الأوروبي (جوزيب بوريل وإنريك مورا)، إلى استنتاج أنّ ما تعسّر تحقيقه طوال سنة كاملة ونيّف منذ ولاية روحاني ووزير خارجيّته محمد جواد ظريف حتى رئاسة إبراهيم رئيسي وجهازه الحالي، بعد سبع جولات طويلة في فيينا، لن يكون في متناول اليد لا في مسقط سرّاً ولا في الدوحة علناً، لا في مفاوضات غير مباشرة يقودها الاتحاد الأوروبي ولا في مثيلتها بمسعى من الدوحة.
لن تغيّر طهران إيديولوجيّتها في سعيها إلى امتلاك السلاح النووي وتطوير صواريخ باليستية. ولن توقف إنتاج الدرونز واستعمالها للاعتداء على جيرانها. ولن توقف تدخّلها السافر في شؤون المنطقة. ولن تمتنع عن تهديد الممرّات والمضائق البحرية وخطف السفن وطلب الفدية من الدول، والابتزاز للإفراج عن أرصدتها أو سفنها.
لقد وصل تدخّل حكم طهران إلى أميركا الجنوبية، حيث حجزت الأرجنتين طائرة الحرس الثوري “Mahan Air”، وأوقفت ملّاحيها وطاقمها لثبوت انتسابهم إلى الحرس الثوري وضلوعهم في تنفيذ خططه.
إقرأ أيضاً: “الهبل” السياسيّ
مشكلة الدول الكبرى أنّها تتعامل مع الملفّات من منظار أحاديّ. وفي الملفّ الإيراني، على سبيل المثال لا الحصر، يعتقد الغرب أنّ ما يصلح في المفاوضات بين الدول الكبرى يصلح مع طهران، فيما نظام الملالي قائم على إيديولوجية “التوسّع”، التي تشكّل مسألة وجودية لـ”ولاية الفقيه”، وبدونها يخسر علّة وجوده. أمّا تحقيقها فيعتمد على تفتيت الدول من الداخل وهيمنة الدويلات التابعة لطهران وتطوير الصواريخ التهديديّة والمسيَّرات الإرهابية و”القنبلة النووية” التي ستكون في حدّ ذاتها من ضمن الوسائل لا الأهداف. وتبقى هذه الوسائل ضرورة ملحّة من وجهة نظر طهران لتحقيق السياسة التوسّعيّة، التي هي “علّة وجود نظام الملالي”، بانتظار قيام الساعة.