كُتب الكثير عن الخطّ 29 وعن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. في هذا التحقيق المطوّل، عرض لأبرز “الروايات” المتناقضة حول كيفية ولادة هذا الخطّ، في الجغرافيا، ثم في السياسة، وفي الإعلام. ومحاولات للإجابة عن أسئلة كثيرة، أبرزها: هل تسرّبت شفّاطات العدوّ الإسرائيلي إلى غازنا ونفطنا، من تحت خلافاتنا الداخلية؟ وهل فرّطنا بثروة أولادنا وأحفادنا… طمعاً بكرسي الرئاسة أو ببعض المزاديات السياسية؟
5 حلقات كُتبت بناءً على مقابلات مع أحد المعنيين الأساسيين بهذا الملفّ إلى جانب رئيس الجمهورية، ومع أحد المعنيين القريبين من قيادة الجيش، ومع أحد وزراء حكومة حسّان دياب، ومع أحد الذين كانوا جزءا من فريق التفاوض في الناقورة، وكذلك بناءً على مقابلات مع حزبيين على علاقة مباشرة بهذا الملفّ، من الموقع التقني والعسكري والسياسي.
في الحلقة الأولى، استعراض للولادة “التقنية” للخطّ 29.
لا تقود رحلة البحث عن الخط 29 إلى حقيقة ناصعة. لكلّ طرف روايته التي لا تلتقي مع رواية الطرف الآخر إلا في تصويب الاتّهامات. هنا تطغى محاكمة النوايا على الوقائع حتى يصبح من الصعب مقاربة الملفّ بمسؤولية وطنيّة. تربط أطراف مناهِضة للعهد إعادة إثارة الموضوع بحاجة جبران باسيل إلى اختراع ورقة يساوم بها لتقديم أوراق اعتماد رئاسية عند الأميركيين. أمّا الأطراف المؤيّدة فلها مقاربتها المختلفة. وبين مقاربتَيْ الـ”مع” والـ”ضدّ” تقع مقاربة قيادة الجيش التي توثّق معطياتها بالوقائع والتواريخ لتخرج منها جازمة أنّ حدود لبنان البحرية هي الخط 29. فيما كان رئيس الوفد المفاوض أبلغ الأميركيين سابقاً أنّه “خطّ تفاوض” فقط. فكيف لبلد أن يخوض نزاعاً مع إسرائيل على حدوده البحرية فيما لم يتّفق على الخط الفاصل بين حدوده وحدود الآخرين؟
لا تقلّ تعقيداً المفاوضات بين اللبنانيين أنفسهم حول الخط البحري 29، عن المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. فالالتباس والتباين وتراشق المسؤوليّات وتبادل التهم طغت على ما عداها. وكانت أصوات الأطراف اللبنانية أعلى وأكثر ضجيجاً وحِدّة. فالاختلاف اللبناني ضرره يطغى على الخلاف مع الجانب الآخر، والوقت لا يعمل في مصلحة لبنان، وعدم وحدة الرؤية والموقف اللبنانيَّيْن تجعل لبنان في موقف لا يُحسد عليه.
يعيد الجيش اللبناني مشكلة ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل إلى سبب رئيسيّ هو وجود صخرة “تخليت” وموقع على مسافة حوالي 1,800 متر جنوب غرب رأس الناقورة
قدّمت الدراسة البريطانية التي أعدّت تلبيةً لطلب الحكومة اللبنانية عام 2011 ثلاثة اقتراحات متعلقة بترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل هي التالية:
1- ترسيم على أساس الخطّ 23.
2- ترسيم على أساس الخطّ 29.
3- وترسيم على أساس خطّ وسطي يقع بين الخط23ّ والخطّ 1، وهو ما تعتمده إسرائيل وما اصطُلِحَ على تسميته لاحقا “خطّ هوف”.
اعتمدت الحكومة اللبنانية لاحقاً الخطّ 23 بينما كان مجلس النواب يناقش عام 2011 حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان. وفي العام 2012 أعاد العقيد البحري في الجيش اللبناني مازن بصبوص التأكيد على الخطّ 29 خلال ندوة عُقِدَت في سويسرا عام 2019 بحضور ممثّلين عن مكتب UKHO. وهناك عادت الحياة إلى الخطّ 29 مجدّداً.
ما هي رواية الجيش؟
يعيد الجيش اللبناني مشكلة ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل إلى سبب رئيسيّ هو وجود صخرة “تخليت” وموقع على مسافة حوالي 1,800 متر جنوب غرب رأس الناقورة. إلى جانب أسباب ثانويّة أخرى. إذ يُعتبر أنّ ترسيم الحدود البحرية يجب أن يتمّ وفق خط الوسط من دون الأخذ بالاعتبار وجود صخرة “تخليت”، وأن لا يُعطى لها منطقة اقتصاديّة خالصة وفق القانون الدولي (وهذا هو الخط رقم 29). وبالتالي يربح لبنان مساحة تبلغ حوالي 1,430 كلم مربّعاً، بالإضافة إلى الحدود التي أعلنها لبنان عام 2011 بموجب المرسوم 6433 الذي صَدَرَ بالاستناد إلى معطيات غير مُكتملة في حينه، وسُمّيت الخط 23.
من جهته، اعتبر الجانب الأميركي قبل بدء المفاوضات أنّ الترسيم يجب أن يتمّ بطريقة “خط الوسط”، مع الأخذ بالاعتبار وجود صخرة “تخليت”، وإعطائها منطقة اقتصاديّة خالصة كاملة، وهو ما يتناقض مع القانون الدولي. ونتيجة ذلك يخسر لبنان حوالي 360 كلم مربّعاً من الحدود التي أعلنها عام 2011. أمّا الجانب الإسرائيلي فيعتبر أنّ حدوده الرسميّة هي التي أعلنها عام 2011، وتزيد على خط هوف بحوالي 500 كلم مربّع نحو الشمال باتجاه لبنان (وهذا هو الخط رقم 1، ولا سند قانونيّاً له).
حكاية المرسوم 6433
في الأوّل من تشرين الأول عام 2011 أصدر لبنان المرسوم رقم 6433/2011، وعيَّن حدوده الجنوبية حتى النقطة 23، علماً أنّه في 17 آب عام 2011 وبناءً على تكليف من الحكومة اللبنانية، قدَّمَ المكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO) تقريراً يوصي لبنان باتّباع طريقة ترسيم تُعطيه مساحة إضافية كبيرة جنوب النقطة 23، وذلك قبل شهر ونصف من صدور المرسوم رقم 6433، إلا أنّ التقرير (UKHO) بقي طيّ الكتمان ولم يُعرَض على مجلس الوزراء في حينه قبل صدور المرسوم 6433.
في عام 2014 أُنشئت مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش، ونَفَّذت في حزيران من عام 2018 مسحاً هيدروغرافيّاً لخطّ الساحل في منطقة الناقورة سمح بالحصول على معطيات أكثر دقّة عن هذا الخط، وتبيّنت وفقاً له ضرورة تعديل خط الحدود البحرية الجنوبية اللبنانية من أجل مصلحة لبنان بالاستناد إلى المادّة الثالثة من المرسوم رقم 6433/2011.
إقرأ أيضاً: “إعادة هيكلة” لوفد مفاوضات الناقورة؟!
بعد ذلك تمّ تشكيل لجنة في الجيش، وتمّت استشارة أحد أهمّ الخبراء الدوليين في ترسيم الحدود البحرية، وهو الخبير نجيب مسيحي، اللبناني الأصل، وعضو لجنة المفاوضات الحاليّة، وتمّ إعداد ملف كامل يؤكّد أحقّيَّة لبنان بمساحات إضافية جنوب النقطة 23. بموجب كتاب وزير الدفاع رقم 5918/غ ع/و تاريخ 27/12/2019 الذي تمّ التأكيد عليه بموجب كتاب وزير الدفاع رقم 780/غ ع/و تاريخ 9/3/2020. ثمّ أُحيل الملف كاملاً إلى مجلس الوزراء مع الاقتراحات اللازمة التي تُعطي لبنان كامل حقوقه من أجل اتّخاذ القرار المناسب وتعديل المرسوم 6433. إلا أنّه حتى تاريخه لم يُعرَض الملف على مجلس الوزراء لإجراء اللازم بشأنه، وهذا يُعتبر أحد أهمّ الأخطاء التي تتعلّق بهذا الشأن. لم يتمّ التوصّل إلى تعديل المرسوم، رغم كلّ ما سبق أعلن رئيس مجلس النواب عقد اتفاق إطار لترسيم الحدود البحرية في 1/10/2020. في 21 تموز 2020 طرح رئيس الجمهورية موضوع تعديل المرسوم.
في الحلقة الثانية غداً:
الخطّ 29: هل اخترعه باسيل لابتزاز الأميركيين؟