الكبتاغون وآل الأسد(2): الدولة تحمي… والحزب شريك

مدة القراءة 11 د

نشرت مجلة “دير شبيغل” الألمانية تحقيقاً، عن “تورّط نظام بشار الأسد بعمق في تجارة المخدّرات الاصطناعية”، بالتعاون مع الصحيفة اليومية الإيطالية “لا ريبوبليكا”.

في الجزء الأوّل أمس كان هناك شرح لكيف ربط المحقّقون الألمان آل الأسد بشحنات الكبتاغون.

دير شبيغل 

استناداً إلى الأدلّة التي تضمنتها التقارير الاستقصائية وشهادات الشهود والمناقشات مع محقّقي المخدّرات على مدار عدّة أشهر، تمكّنت “دير شبيغل” والصحيفة اليومية الإيطالية “لا ريبوبليكا” من رسم صورة لنظام يتمتّع بسيطرة محدودة على شبكاته الإجرامية. أقام أبناء عموم الأسد وحزب الله وزعماء المافيا المحلّيون إمبراطوريات صغيرة تتصادم أحياناً.

لكن عندما يتعلّق الأمر بالمواصلات، فإنّ اسم ماهر الأسد، الأخ الأصغر للرئيس السوري بشار الأسد وقائد الفرقة الرابعة، يظهر مراراً وتكراراً. ويعتقد المحقّقون أنّ الفرقة الرابعة تحوّل في السنوات الأخيرة إلى نوع من تكتّل مافياوي ذي جناح عسكري يحرس الشحنات والمصانع، بالإضافة إلى السيطرة على الموانئ وصرف الأموال. ويُعتقد أنّ نائب ماهر، اللواء غسان بلال، هو رئيس العمليات والمنسّق مع حزب الله.

قد يكون بشار الأسد الزعيم المطلق للبلاد، لكنّ ولاء أمراء الحرب الأقوياء وقادة الأعمال وحتى أقاربه له ثمن. الرجال الذين يقفون وراء القضية قيد المحاكمة في “إيسن” عملوا أيضاً مع عائلة الأسد، لكن نيابة عنهم، وفقاً لمُخبر من مدينة صيدنايا المسيحية، التي جاء منها العديد من قادة الجماعة. يقول: “كانوا عصابة متورّطة في جرائم صغيرة”. ويُطلق عليهم اسم الحوت، أو عصابة الحوت، على حدّ قوله، مضيفاً أنّه لا يعرف من أين أتى الاسم. والأهمّ من ذلك أنّهم مسيحيون. “عندما اندلعت الحرب، أراد الأسد إبقاء صيدنايا والمسيحيّين إلى جانبه مهما حدث”. لذلك أعطى أفراد العصابة حرّية التصرّف مع رجال الأعمال الآخرين، مثل أولئك الذين فرّوا من ضواحي دمشق المزدهرة.

قد يكون بشار الأسد الزعيم المطلق للبلاد، لكنّ ولاء أمراء الحرب الأقوياء وقادة الأعمال وحتى أقاربه له ثمن. الرجال الذين يقفون وراء القضية قيد المحاكمة في “إيسن” عملوا أيضاً مع عائلة الأسد

قال المخبر إنّهم عاشوا لسنوات على النهب والابتزاز، لكن في النهاية جفّت مصادر الدخل هذه. قدّم الكبتاغون نفسه مصدراً جديداً ممتازاً للإيرادات. يقول المخبر إنّهم ينتجون الآن حبوباً في ثمانية مواقع بين صيدنايا وبلدة رنكوس، الواقعة بالقرب من الحدود اللبنانية.

الكبتاغون هو عقار أمفيتامين الذي يحظى بشعبية كبيرة بين شباب الخليج الذين يشعرون بالملل فيحتفلون طوال الليل. ومثلهم يحتاج إليه عناصر قوى الإرهاب والميليشيات الأخرى في الشرق الأوسط وإفريقيا الذين يريدون أن يشعروا بأنّهم لا يُقهرون.

تُباع حصّة الأسد من الأقراص، التي يُشار إليها باسم “قمرين” أو “لكزس”، في دول الخليج في الشارع مقابل 32 دولاراً للحبّة. وفقاً لتقدير فريق من علماء الطب النفسي الاستقصائيّين، فإنّ ما يصل إلى 40 في المئة من متعاطي المخدّرات الشباب في الخليج يتناولون الكبتاغون الآن.

إلى أين تتّجه؟

في أوروبا، حيث تمّت مصادرة كميّات ضخمة من الحبوب في عدّة مناسبات مختلفة، لم يعُد الكبتاغون بنفس الشعبية تقريباً. يقول محقّقو المخدّرات الإيطاليون والألمان إنّهم فوجئوا بالاكتشافات في وقت مبكر، وتساءلوا إلى أين كانت متّجهة.

مع ذلك، كشفت التحقيقات أنّ الالتفاف الذي تسلكه المخدّرات عبر أوروبا هو جزء من الخطة، التي تهدف إلى خداع مسؤولي الجمارك في المملكة العربية السعودية ودبي. فما إن تصل إلى أوروبا، تتمّ إعادة حزمها وإعادتها جنوباً إلى الخليج.

يقول محقّق في شرطة Guardia di Finanza الإيطالية: “الحاويات التي تأتي مباشرة من اللاذقية يتمّ تفكيكها على الفور من قبل السعوديين، وصولاً إلى المسمار الأخير. لكنّ الحاويات المقبلة من أوروبا التي تحتوي على أجزاء آلات ولفائف من الورق نادراً ما يفحصونها”.

حتى لو كانت أوروبا حتى الآن محطة نقل وحسب، فإنّ المحقّقين قلقون بسبب الحجم الهائل للأعمال. يقول مسؤول ألماني: “الشحنات مربحة جدّاً. يمكن أن تجلب حاوية واحدة مئات الملايين من اليوروات. ولذلك تجذب المجرمين مثل الذباب. علينا أن نوقف ذلك. السوريون ينتجون الأشياء وكأنّه ليس هناك غد”.

ما هو الكبتاغون؟

يُطلَق على الكبتاغون أحياناً اسم “الكوكايين الخاص بالرجل الفقير”، وله تاريخ معقّد إلى حدّ ما. تمّ تطويره في عام 1961 من قبل شركة الأدوية الألمانية Degussa  على أساس أن يعالج مشتقّ الأمفيتامين فينيثيلين اضطرابات نقص الانتباه مثل “اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه”. في عام 1986، تمّ حظره بسبب آثاره الجانبية، التي تتضمّن القلق والهلوسة والاكتئاب.

بحلول ذلك الوقت، كان منتجو الأدوية في بلغاريا قد اكتشفوا منذ فترة طويلة خصائص الدواء المسكِرة، واستمرّوا في إنتاج الكبتاغون بشكل غير قانوني. لكن نظراً إلى صعوبة الحصول على الفينيثيلين، فقد تغيّر التركيب الكيميائي الفعلي للحبوب على مرّ السنين، لكنّ الاسم ظلّ كما هو: كبتاغون.

في التسعينيّات، بدأ الكيميائيون البلغار بالتعاون الوثيق مع سوريا، حيث أتاحت صناعة الأدوية القانونية جنباً إلى جنب مع الصفقات غير القانونية، التي شملت في البداية الحشيش الوارد من لبنان المحتلّ من قبل القوات السورية، ظروفاً مثالية لتوسيع نطاق المشاركة في تجارة الأدوية الاصطناعية.

الكمّيات الصناعيّة

استفادت ميليشيا حزب الله اللبناني من خبرته اللوجستية التي اكتسبها من خلال تصدير الحشيش، الذي زُرِع في سهل البقاع لعقود تحت إشراف الحزب، لدخول سوق حبوب الكبتاغون. انكشفت الاتصالات التجارية الرفيعة المستوى للميليشيا في تشرين الأوّل 2015، عندما تمّ القبض على الأمير السعودي عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود في مطار بيروت فيما كانت طائرته الخاصة على وشك الإقلاع وهو على متنها مع طن من الكبتاغون. يبدو أنّ الأمير كان على خلاف مع شركائه في العمل، فكان الانتقام سريعاً، كما قال ضابط مخابرات لبناني لصحيفة “الغارديان”: “لقد صنعه حزب الله”.

كانت البداية وحسب مواقع إنتاج المخدّرات الصغيرة التابعة للميليشيا، التي بدأت بالظهور بأعداد كبيرة في عام 2013 أوّلاً في المنطقة المحيطة ببلدة القصير غرب سوريا التي احتلّها مقاتلو الميليشيا. في السنوات الأخيرة، ظهرت المصانع المناسبة، ولا سيّما في محيط اللاذقية، مسقط رأس الأسد في القرداحة وفي القسم العلوي من حمص. يتمّ تشغيلها من قبل العديد من أبناء عموم الأسد وأتباع النظام الآخرين.

في عام 2021، قال رجل أعمال فرّ من سوريا لـ”دير شبيغل” إنّه زار أحد المصانع في اللاذقية: “إنّهم ينتجون بكميّات صناعية”. ولفت إلى أنّ “حرّاساً مسلّحين يقومون بدوريات في المجمّع”. ولأنّ والديه ما زالا في البلاد، طلب منّا عدم وصف الموقع الدقيق للمصنع الذي يقوم بتشغيله ابن عمّ الأسد.

في عام 2020، سجّلت الأمم المتحدة استيراد سوريا 50 طناً من مكوّن أساسي مهمّ في إنتاج الكبتاغون. وتسمّى هذه المادة الكيميائية السودوإيفيدرين

إلى ذلك أكّد محقّق سوري سابق في قضايا المخدّرات، وقائد ميليشيا النظام، وحارس للمصنع، وجود هذا الأخير. لكن لا أحد يريد المجازفة بتعريض نفسه لانتقام الذراع الطويلة لآل الأسد، وطلب عدم الكشف عن هويّته.

بالنسبة إلى المحقّقين الأجانب، فإنّ سوريا هي في الأساس ثقب أسود. ليس من المنطقي إرسال طلبات للحصول على مساعدة قضائية من ديكتاتورية تسيطر فيها الأسرة الحاكمة على تجارة المخدّرات. على هذا النحو، لا يمكن إلا تخمين الكميّات المنتَجة من الكبتاغون في سوريا.

في عام 2020، سجّلت الأمم المتحدة استيراد سوريا 50 طناً من مكوّن أساسي مهمّ في إنتاج الكبتاغون. وتسمّى هذه المادة الكيميائية السودوإيفيدرين  pseudoephedrine، التي تُستخدم في الأدوية الباردة بوصفة طبية، لكن أيضاً لإنتاج “الكريستال ميث”. خمسون طناً هي أكثر من نصف الكميّة التي تستوردها سويسرا التي تمتلك صناعة أدوية ضخمة.

ليس من الواضح على وجه التحديد أيّ الجماعات في سوريا تتحكّم في عمليات التهريب الفردية، لكنّ هناك أدلّة تستند إلى الأخطاء التي تمّ ارتكابها والاستعدادات المهنية التي أظهرتها بعض الشحنات.

خلال التحقيق الذي دام عامين في شمال الراين – وستفاليا، أصبح من الواضح أنّ حزب الله لا يلعب أيّ دور في الشحنات المقبلة من اللاذقية. بدلاً من ذلك، سعى أبناء أعمام الأسد إلى إنشاء شبكة توزيع خاصة بهم، فارتكبوا أخطاء في الخارج يرتكبها المبتدئون، إذ لم يكن لديهم نفس القدر من الخبرة التي لدى حزب الله.

مع ذلك، فاجأت الشحنة التي تمّ اعتراضها في ساليرنو المسؤولين بسبب جودة الإخفاء. يقول مسؤول إيطالي: “كانت لفافات الورق ضخمة جدّاً لدرجة أنّنا لم نكن لنجد الحبوب بداخلها لو قمنا بتصويرها بالأشعّة السينيّة”. من الواضح أنّ القوائم تمّ إنتاجها في مصنع تمّ إنشاؤه لهذا الغرض، وهو استنتاج تمّ التوصّل إليه من خلال فحص بعض التمزّقات التي تمّ إصلاحها، على ما يقول المشؤول.

الجائزة الكبرى

تضمّنت الشحنة أيضاً آلة مزيّفة يبلغ طولها عدّة أمتار مصنوعة باستخدام عجلات مسنّنة ضخمة، ومن المحتمل أنّه تمّ تجميعها من أجزاء من خردة السفينة، التي تمّ طلاؤها حديثاً، بل وتمّ ختمها بشعار شركة الهندسة الميكانيكية الإيطالية Fusetti. يقول المسؤول: “تمّ صنع كلّ شيء ليبدو كما لو أنّ الحاويات أتت مباشرة من إيطاليا”. كانت الشحنة ستنتقل من ساليرنو إلى أثينا، ثمّ تُعاد إلى المنطقة العربية. إنّه الطريق القياسي.

لكن بعد ذلك جاء فيروس كورونا. وصلت الشحنة الأولى من اللاذقية في 12 نيسان 2020، لكن بسبب توقّف عمليات الميناء بسبب كورونا، لم يكن ممكناً إرسالها. وصلت الشحنة الثانية إلى الميناء في 15 نيسان، ولم يحدث شيء لأسابيع، لكن بعد ذلك أخطر جاسوس من كامورا الشرطة بما تحمله الشحنة الأولى. يقول محقّق إيطالي: “من المحتمل أن يكونوا قد علموا بحقيقة أنّ شخصاً ما أراد تهريب المخدّرات عبر أراضيهم”.

كان المخبر قد تحدّث إلى الشرطة عن حشيش تمّ اكتشاف 2.8 طن منه مخبّأة بين الملابس المستعمَلة. لكنّهم عثروا أيضاً على 190 كيلوغراماً من الكبتاغون، وهو مزيج محبوب من التجار السوريين. يقول المحقّق من نابولي: “بعد ذلك، راجع مسؤول آخر جميع حجوزات الحاويات التي تمّ إجراؤها على مدار عدة أسابيع لمعرفة هل تمّ حجز شحنات إضافية على نفس الطريق من قبل نفس الوكلاء”. هكذا وجدنا الشحنة الثانية، وكان فيها 14 طناً. إنّه الفوز بالجائزة الكبرى.

فوجئ المسؤولون في ساليرنو ونابولي بمزيج من الاستعدادات المثالية التي تمّ إجراؤها في سوريا واللوجستيات المبتذلة إلى حدّ ما في أوروبا، بما في ذلك خطة غابت عنها تماماً حقيقة أنّ معالجة الحاويات في ساليرنو قد تمّ تعليقها بسبب جائحة فيروس كورونا.

استعمال العراق والأردن

لكن حتى المصادرة الواسعة لحبوب الكبتاغون في ساليرنو لم تكن تمثّل مشكلة كبيرة للكارتل السوري. بعد شهرين فقط، اكتشف المحقّقون الرومانيون 4 ملايين حبّة كبتاغون في ميناء كونستانتا، مخبّأة في صابون الزيتون. ومنذ أن أصبح المسؤولون في أوروبا متشكّكين في جميع الشحنات المقبلة من اللاذقية، ازدادت كميّات الكبتاغون المهرّبة برّاً عبر العراق والأردن.

يخوض حرس الحدود الأردني هناك بانتظام معارك بالنيران مع مهرّبين. في 26 كانون الثاني 2022، قُتل 27 مهرّباً سوريّاً بالرصاص، وأُصيب عدد أكبر عندما حاولوا الاستفادة من عاصفة ثلجية لعبور الحدود إلى الأردن.

إقرأ أيضاً: دير شبيغل: نظام الأسد لن ينجو من خسارة عائدات الكبتاغون (1)

كان يوم جمعة من شهر تشرين الثاني عندما سافر إياد س. مرّة أخرى إلى ألمانيا حاملاً تأشيرة سياحية. كان المحقّقون في إيسن ينتظرونه منذ أكثر من عام، وأرادوا إلقاء القبض عليه بأنفسهم، مع العلم أنّ مذكّرة التوقيف الدولية لن تكون ذات فائدة كبيرة في تركيا أو لبنان. اصطحبه نجله من مطار فرانكفورت إلى عائلته في شباير.

عندما علم المسؤولون بعد يوم واحد من محادثة هاتفية تّم اعتراضها أنّه كان يخطّط لمغادرة البلاد مرّة أخرى قريباً، توجّهوا نحوه. بعد الساعة السادسة صباحاً بقليل، تمّ تكبيله بالأصفاد، وانتهت عطلة نهاية الأسبوع. كذلك انتهت رحلة تجارية بالكبتاغون.

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تضرب حيّ السّلّم للمرّة الأولى: هل تستعيده الدّولة؟

بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً…

أمن الحزب: حرب معلومات تُترجم باغتيالات (2/2)

لا يوجد رقم رسمي لمجموع شهداء الحزب في حرب تموز 2006، لكن بحسب إعلان نعي الشهداء بشكل متتالٍ فقد تجاوز عددهم 300 شهيد، واليوم بحسب…

أمن الحزب: ما هو الخرق الذي سهّل مقتل العاروري؟ (2/1)

سلسلة من الاغتيالات طالت قيادات من الحزب وحركة حماس منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على وجه التحديد توّجت باغتيالين كبيرين. الأوّل اغتيال نائب رئيس…

النزوح السوريّ (3): النظام لا يريد أبناءه

12 سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد…