عملاً بالمثل الشائع “مصائب قوم عند قوم فوائد”، فإنّ “مصائب غير الماكرونيين عند ماكرون فوائد” وفرص يقتنصها، إذ تعيش فرنسا بأنظمتها السياسية والمجتمعية أزمة خلل وركود وجمود سلبي في الساحة السياسية نتيجة العديد من التراكمات، التي انعكست تراجعاً كبيراً لنفوذ وتأثير المدارس السياسية التقليدية (الجمهوريين والاشتراكيين) أمام الحركات السياسية المعاصرة. فحزب ماكرون “فرنسا إلى الأمام” (النهضة) وائتلافه أقرب إلى كونه حركة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ائتلاف اليسار وفرنسا الأبيّة (ميلونشون)، ولتحالف (لوبان) التجمّع الوطني وبعض اليمين.
تستمرّ هزيمة أحزاب الجمهورية الخامسة في مواجهة الحركات السياسية والنماذج التحالفية السريعة. بل وتتسارع على الرغم من تقدّم اليمين. وهذا يدلّ على معاناة الجمهورية وأنّها ليست بخير، والأسباب عديدة، أهمّها الترهّل في مرونة مؤسسات الدولة الفرنسية، والبطء في الاستجابة للمشاكل الطارئة والحياتية، والضعف في تلبية الحاجات الملحّة، والعجز عن سدّ الثغرات المجتمعية الفرنسية، وعدم القدرة على التصدّي للأزمات الكبرى (الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية والديمغرافية). حتّى بات الرأي العامّ الفرنسي مقتنعاً بعدم قدرة استطاعة الجمهورية الخامسة على تأمين الدعم والاستمرارية والتطوّر الحقيقي للدولة. وفي اختفاء الفوارق بين الأحزاب الأصليّة في الحكم باتوا جميعهم يشبهون بعضهم، “فلا فرق بين الجمهوري والاشتراكي واليساري والشيوعي والبيئي الأخضر إلا بتقوى الالتزامات الفرنسية”، وهدفهم الأساسي هو الوصوليّة والتمكّن من السلطة.
ماكرون أقرب للأكثرية النسبية. هذا على الرغم من افتقاده التفوّق الشعبي العددي في مقارنة بين الأكثرية الشعبية والأكثرية النيابية
نهاية “الجمهوريّة الخامسة”؟
على الرغم من الأريحيّة التي يعطيها دستور الجمهورية الخامسة لرئيس الجمهورية في سلطة التقدير والاستنساب في اختيار رئيس الحكومة. إلا أنّ للرئيس ماكرون مصائبه كذلك، وهو ليس بمنأى ولا على “رأسه ريشة”، وخاصة لجهة الانخفاض في نسب التصويت وتزايد أعداد المقاطعين والمعارضين الشرسين له، ورصّ صفوفهم على نحو جدّيّ لتقوية نفوذهم في مواجهته وانتزاع مفتاح السيطرة منه.
يسعى ماكرون لحصد الأكثرية المطلقة (النصف زائداً واحداً) كهدف أساسي في الانتخابات التشريعية، والأكثرية النسبية (الأكثرية العددية بين اللوائح المتنافسة) لحفظ ماء الوجه، وذلك لكي لا يتم إحراجه ومضايقته بالدرجة الأولى عند اختياره الوزير الأوّل أي رئيس الحكومة ولتأمين الهدوء في مسيرة حكمه.
إلا أنّ ماكرون أقرب للأكثرية النسبية. هذا على الرغم من افتقاده التفوّق الشعبي العددي في مقارنة بين الأكثرية الشعبية والأكثرية النيابية. خصوصاً أنّ الأكثرية تحدّدها المقاعد النيابية المحصودة وليس أعداد الناخبين. ما يرجّح احتمال احتفاظه بالأكثرية الشعبية وبضبابية كبيرة لجهة فوزه بأكثرية النصف وائداً واحداً.
يستعدّ الفرنسي للتصويت ومعه ميزتان هذه المرّة:
– الأولى هي عدم قدرة شركات الاستطلاع على تقدير نتائج الانتخابات التشريعية للمرّة الأولى منذ عقدين.
– أمّا الثانية فتقوم على انحسار المجموعات السياسية والأحزاب الواقعية، سواء الجديدة منها أو التقليدية والكلاسيكية، واضطرارها إلى أن تلعب ورقتها الوجودية بكلّ صراحة بناء على خيارين لا ثالث لهما، إمّا النجاح وإمّا الهزيمة وإمّا الذوبان والأفول.
تشظّي الأحزاب العريقة
تعلّق حركة فرنسا الأبيّة وحزب الاتحاد الشعبي وبعض الشيوعيين وحزب الخضر واليسار بشكل عامّ، آمالاً كبيرة على فوز جبهتهم المناهضة لماكرون بالأكثرية، بعدما أفرزت الانتخابات الرئاسية أربع قوى واقعية على المسرح المحلّي الفرنسي، فبات لدينا النموذج الماكروني الوسطي، والمنهاج اللوباني اليمينيّ المتطرّف، وحراك ميلونشون بندائه الشعبي للمواطن لأن ينتخبه رئيس حكومة، ولدينا فخامة الحزب الممتنع والمقاطع للانتخابات وغير المعنيّ بالحياة السياسية.
للانتخابات التشريعية الفرنسية أهمية كبيرة، وهي بالفعل الدورة الثالثة من الانتخابات الرئاسية، وتشغل بال الرئيس منذ فترة، إذ تشكّل دسم السلطة والحكم وعصب انطلاقة الولاية
ينقسم الناخبون الفرنسيون المعارضون والضائعون والحائرون إلى ثلاث جماعات بغضّ النظر عن تفضيلاتهم السياسية، وهم بمعظمهم من بقايا اليمين واليسار والجمهوريين والاشتراكيين ومختلف القواعد والكوادر السياسية المحلّية في فرنسا الممتعضين بالدرجة الأولى من أحزابهم وجماعتهم:
– الأولى امتنعت عن التصويت بشكل نهائي.
-الثانية تمنح الرئيس فرصة في بداية ولايته، خاصة إذا كانت ترغب في تجنّب إضعاف السلطة التنفيذية وفي دعم الحزب الرئاسي، وهذا عقاب لأحزابها أو لأنّها اقتنعت بالمشروع الرئاسي.
– الثالثة لجأ البعض منها على الأرجح إلى تثبيت معارضته من خلال تشجيع وإقناع الجمهور المعارض عبر التأثير الاستطلاعي العملي، ورفع حماسة الخصوم الذين يقيسون من خلال نتيجة الانتخابات الرئاسية فرصهم في الانتخابات التشريعية ودعم المعارضة المفيدة في الجمعية الوطنية لتأكيد معارضتهم للرئيس المنتخب حديثاً لولاية ثانية.
لا يُعوَّل أبداً في بناء التحالفات من خلال الاجتماعات الحميمة والمحمومة والملغومة على اليمين واليسار، فكلّ ما يحصل هو لمصلحة الأغلبية الرئاسية الماكرونية، وخصوصاً بسبب أسلوب ميلونشون الصارم والديكتاتوري والإلغائي وأسلوب مارين لوبان الانعزالي والأحادي. فميلونشون يخطئ بفرض أسلوبه على الاشتراكيين، وهو مأزق موصوف وكبير لحزب عريق في فرنسا أوصل فيما مضى رؤساء للجمهورية وحكم فرنسا، فيما لا يقوى الآن على فرض شرط واحد على ميلونشون.
في ما يخصّ اليمين الجمهوري، فهو ليس بأفضل حال من اليسار أبداً، وخصوصاً مع “بيكريس” التي حصلت على نتيجة رئاسية مزرية للحزب اليميني الجمهوري العريق. فهل ينصهر مع ماكرون أم مع يمين لوبان بعد الانتخابات النيابية؟
ماكرون اليوم أمامه تياران:
1- المعتدلون، من الجمهوريين، أولئك القريبون من اليسار والوسط الذين يريدون المشاركة في الحكومة والذوبان أو التفاهم مع ماكرون.
2- التيار المتشدّد الراغب بالذهاب إلى المعارضة أو التحالف مع اليمين المتطرّف، وهو بصدد أن يواجه انصهاراً واستقطاباً كبيراً من صفوفه لمصلحة ماكرون أو لوبان. ويقول البعض إنّه حزب مستقلّ وأصليّ، وإنّ على اليمين المتطرّف الشعبي أن يكون قائماً بحدّ ذاته من خلال السعي بصفة شخصية وليس بقرار على مستوى الحزب إلى تأليف مجموعة نيابية لا تدعم ماكرون ولا اليسار وتمارس المعارضة.
عمل اليمين على إنشاء تحالفات فيما بينه على مستوى الاستحقاق الرئاسي على الرغم من الخلافات الكبيرة. لكنّ الرئاسة أمر والنيابة أمر آخر، مع تفهُّم اليمين لعجزه عن اقتحام الإليزيه مجدّداً بوجود لوبان، بالإضافة إلى التحالفات اليمينية العديدة مع ماكرون التي فاقت تلك المعقودة مع الجمهوريين، وهي لمصلحة ماكرون، لكنّه ليس مسؤولاً عنها، وهي تعبّر عن أزمة يمينية ذات عوامل داخلية، سببها الأساسي الفشل الرئاسي. غير أنّ ماكرون مسؤول عن الأزمة داخل المعسكر الاشتراكي واليساري، إذ قامت انطلاقته الأولى على سحب الكثير من حزبيّي هذا المعسكر.
إقرأ أيضاً: “شبح” برلمان لبنان… يلاحق “عهد” ماكرون
إذاً للانتخابات التشريعية الفرنسية أهمية كبيرة، وهي بالفعل الدورة الثالثة من الانتخابات الرئاسية، وتشغل بال الرئيس منذ فترة، إذ تشكّل دسم السلطة والحكم وعصب انطلاقة الولاية، وتحدّد مصير الحكومات وسلاسة العهد وصفاء زرقة الإليزيه.
فمن دون أغلبية واضحة وراسخة عدديّاً لا يمكن للرئيس أن يحكم، وهذا ما سيحاول ماكرون أن يحقّقه.