يخيّم القلق النيابي فوق سماء الإليزيه، فسيّد القصر الفرنسي يعيش حالة من التلبّك، وتساوره الهواجس على الرغم من فوزه بالولاية الثانية واحتفاظه بالرئاسة. فالرجل الذي لديه أفكار وبرامج بالـ”ماكرو”، ويفكّر لتطبيقها في “الميكرو” التفصيليّ، قد خذله وغدره النوم التشريعي الذي ذهب من عينيه، ولم يعُد ينام قرير العين، والسبب بسيط جدّاً، وهو إدراكه أنّه لا يستطيع أن يحكم بسلام من دون أن يفوز بالأكثرية في الغرفة الثانية من الجمعية الوطنية (البرلمان).
يرى الرئيس ماكرون في نومه الكثير من كوابيس “لوبان” التشريعية ومنامات “ميلونشون” النيابية وأحلام المقاطعة البرلمانية المزعجة، بالطعمة اللبنانية. فهو لا يريد انتقال عدوى البرلمان اللبناني إلى مجلس النواب الفرنسي، مع تراجع شعبية ائتلافه والتوجّس من المقاطعة بسبب ظهور المعارضة اليسارية الشرسة جدّاً وتعرّضه وحلفائه لمنافسة قوية من ائتلاف الأحزاب اليسارية بزعامة ميلانشون، ومن الكتلة اليمينية المتجمّعة حول لوبان، التي تحاول رصّ صفوفها.
فهل تنقذ الانتخابات التشريعية البطيئة ماكرون وفرنسا؟
هل تُعتبر الانتخابات النيابية استحقاقاً مفيداً لفرنسا؟
هل تنتهج فرنسا التصويت العقابي مجدّداً؟
هل نشهد كسراً في النفوذ الرئاسي بالانصهار والاستقطاب أو المساكنة والائتلاف؟
يخاف الرئيس ماكرون كثيراً على النسخة الجديدة من الجمعية الوطنية الفرنسية، فهو يريد لتحالفه الكلمة الفصل لضمان أن يكون عهده سلساً والتقليل من المشاكل في ولايته الثانية
تعيش فرنسا بأنظمتها السياسية والمجتمعية أزمة خلل وركود وجمود سلبيّ في الساحة السياسية نتيجة العديد من التراكمات التي انعكست تراجعاً كبيراً في نفوذ المدارس السياسية التقليدية فيها، واضمحلال الفوارق العملية والتنفيذية فيما بينها على أرض الواقع لمصلحة الحركات السياسية المعاصرة، خصوصاً بين المعسكرين الأساسيّين الاشتراكي والجمهوري. فحزب ماكرون “فرنسا إلى الأمام” (النهضة) وائتلافه، هما أقرب إلى الشكل الحركي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ائتلاف اليسار وفرنسا الأبيّة، وتحالف التجمّع الوطني وبعض اليمين. إذ فتحت النتائج المتأرجحة والمتراجعة والمتقاربة للمعركة الرئاسية الباب مباشرة على الانتخابات البرلمانية التي سُمّيت لأهمّيتها بـ”الدورة الرئاسية الثالثة”، على الرغم من الثقل في الحركة التحضيرية لها. ويحاول ماكرون الاستفادة من الواقع كما هو، على الرغم من المخاطر، من أجل الوصول إلى هدفه الرئيسي في حصول ائتلافه على الرقم الذهبي: 289، من أصل 577، أي ضمان الأكثرية من أجل مسيرة حكم غير مفخّخة.
خوف ماكرون “اللبناني”
يخاف الرئيس ماكرون كثيراً على النسخة الجديدة من الجمعية الوطنية الفرنسية، فهو يريد لتحالفه الكلمة الفصل لضمان أن يكون عهده سلساً والتقليل من المشاكل في ولايته الثانية. ولذلك لا يرغب بأن يكون مجلس النواب الفرنسي مجلساً لبرلمانات متعدّدة كما هي حال البرلمان اللبناني المشابه للعبة الماتريوشكا الروسية الشهيرة، حيث الجيوب البرلمانية المفخّخة وفقاقيع الكتل الوهمية غير المنتجة وغير المدركة والأسماء السرابية.
فهو يريد أن يتجنّب برلماناً من دون أكثرية واضحة ترسم معالمه تحالفات على القطعة، ولا يريد بصراحة المساكنة السياسية فرنسيّاً على الرغم من دعوته إليها في لبنان، وغير متحمّس للدخول في التآلفات السياسية والمشاركات البرلمانية غير الثابتة من دون أيّ ثقة واتفاق مسبق، لأنّها ستعرقل العمل التشريعي، وبالتالي التنفيذي للبرامج والإصلاحات.
وهو يرفض بالمطلق حكومات الوحدة الوطنية كالتي حفّز عليها في لبنان. فسقفه الأعلى هو الاستقطاب. يريد انتزاع الأكثرية والظفر بها بأعدادها الوافية والكافية لكي يرتاح في الخمس سنوات المقبلة من ولايته الرئاسية.
إقرأ أيضاً: بايدن في اليابان وكوريا: سائحٌ… وليس امبراطوراً
يرى اليمين، على تنوّعه، مثل حزب الله، واليسار، بمجمله، مثل الثوار والتغييريين. ولا يريد التعاون معهم أبداً. فـ”فرنسا ماكرون” لا تشبه لبنان “العهد القوي”، إذ لا مكان فيها للتوافقية الفاشلة وغير المنتجة مثل لبنان. فالديمقراطية ليست توافقية إلا في بلد الأرز، في حين أنّ الديمقراطية في فرنسا هي حكم الأكثرية الفائزة. والذي لا يريد المشاركة يذهب إلى المعارضة. هناك يكون التوافق أوّلاً وأخيراً بالاحتكام والاحترام المطلق لنتائج الانتخابات وحدها والعمل على أساسها، وهي ازدواجية حشرت ماكرون في الزاوية مع كلّ نواياه السابقة لحلحلة الأزمة اللبنانية.
كأنّه القدَر، أو “الكارما”، تعاقب ماكرون، الذي ساهم في “إعادة إنتاج” الطبقة السياسية اللبانية بعد تفجير المرفأ، وقد انقلب السحر عليه، بأنّ مصيره قد يكون مهدّداً ببرلمان “لبنانيّ” النكهة، بطعم التعطيل، وبوعد الفشل لـ”عهد” ماكرون الثاني.