حين أسقط الأميركيون عام 2003 النظام القائم في العراق منذ عام 1968 لم يكونوا يفكّرون إلا في إقامة نظام سياسي بديل. أمّا الدولة التي جرى حلّ مؤسّساتها، وفي مقدَّمها الجيش والأجهزة الأمنيّة، فإنّ التفكير فيها لم يحتلّ مكاناً في العقل السياسي الأميركي. لذلك لم يخطّط بول بريمير، الحاكم المدني باسم سلطة الاحتلال، لقيام جمهورية جديدة حين أسّس مجلسَ حكمٍ كان عبارة عن صيغة مصغّرة لنظام المحاصصة الطائفية، يُنهي العراق الموحّد ويُنشئ عراق المكوّنات. وهو ما نصّ عليه الدستور الجديد الذي ساهم المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في حثّ الجمهور العريض على التوقيع عليه بالموافقة.
ما حدث يومذاك أنّ النظام السياسي أُقيم في فراغ اللادولة. لم يكن العراق يومئذٍ سوى دولة افتراضية موجودة في سجلّات المنظمات الدولية والإقليمية كالأمم المتحدة أو الجامعة العربية، وظلّت سفاراته في عواصم الدول تعمل بصفة اعتبارية. أمّا على مستوى الواقع فإنّ دولته الحقيقية قد تمّ تغييبها منذ أن أوقف بريمير العمل بالقوانين لمدّة سنة. وهي السنة التي قضاها في العراق، ولم يسعَ أحدٌ بعده أن يعيد العمل بتلك القوانين إلا بطريقة انتقائية بما يدخل في مجال تصفية الحسابات بين الفرقاء الحزبيّين الذين كان بريمير مضطرّاً إلى اختيارهم من أجل أن يكون التمثيل الطائفي متكافئاً. لم يكن مجلس الحكم سوى عبوة ناسفة انفجرت بعد غياب بريمير بوقت قصير.
في ظلّ تعثّر المحاولات لتشكيل حكومة جديدة بسبب الصراع الحزبي داخل البيت الشيعي، سيكون أمل العراقيين في ولادة جمهورية جديدة شأناً مؤجّلاً قد لا يرى النور أبداً
يومئذٍ أُسِّس العراق الجديد على أنقاض دولة العراق. ولم يكن العراق الجديد سوى فكرة في ذهن بريمير، الرجل الذي سخر من السياسيين الذين انتدبهم لحكم ذلك العراق ووصفهم بالأغبياء والمنافقين واللصوص في كتاب مذكّراته عن سنته في العراق. ولو أنّ بريمير فكّر في كتابة تأمّلاته في ما انتهى إليه عراقه الجديد لأبدى إعجابه بفكرته التي قاومت التحدّيات لعشرين سنة وما يزال في إمكانها أن تقاوم ما دامت الدولة غير ممكنة. ذلك لأنّ نظام المحاصصة الطائفية الذي أقامه يمكن أن يبقى إلى الأبد ما دامت الدولة غير قائمة. وهذا ما تدركه الطبقة السياسية التي تشكّل العمود الفقري للنظام، وهي تسعى إلى إبقاء الحكومة في المستوى الأدنى من خدماتها. فالحكومة ضرورية في حدود معيّنة، وأمّا الدولة فلا.
النظام “الكليّ الشمولي”
لقد تمّ الفصل شكليّاً بين السلطات الثلاث. لكنّ الواقع يقول شيئاً آخر. ذلك لأنّ النظام كان قد خلق معايير تناسبه بحيث تتطابق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في رؤية واحدة تناسبه باعتباره الكلّ الشمولي الذي يمنع قيام دولة تكون بمنزلة خيمة تستظلّ بها المؤسّسات من غير الحاجة إلى العودة إلى نظام المحاصصة. لذلك لم تكن الحكومات ومجالس النواب والقضاء سوى واجهات حزبية. أمّا إرادة الشعب التي نصّ عليها الدستور فقد بقيت في طيّ النسيان. حتى الانتخابات لم تكن سوى إجراء شكليّ لن يكون في إمكانه أن يُحدث تغييراً ينتقص من قوّة النظام.
بقي الحال على ما هو عليه عبر العشرين سنة الماضية، وهو ما يمكن أن يستمرّ إلّا إذا انتبه العراقيون إلى أنّ إسقاط النظام ينبغي أن يكون بداية لقيام دولة جديدة لا نظام جديد.
أما وقد انتهى مصير البلد إلى يدي مقتدى الصدر بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة (2021)، فإنّ الطريق ستكون أطول ممّا توقّعه العراقيون الذين كانوا يأملون التغيير حين قرّروا حرمان الأحزاب الموالية لإيران من الاستمرار في الحكم. فالصدر الذي سبق له أن قام بإنقاذ نظام المحاصصة الطائفية من السقوط غير مرّة لا يتّسع عقله السياسي لمسألة قيام دولة سيكون في إمكانها أن تعرّضه وسواه للمساءلة القانونية. بداياته المتخبّطة بكلّ ما تنطوي عليه من عبث بفقرات الدستور والقفز عليها تقول ذلك.
إقرأ أيضاً: انتخاباتنا وانتخاباتهم. ديمقراطيتنا وديمقراطيتهم
في ظلّ تعثّر المحاولات لتشكيل حكومة جديدة بسبب الصراع الحزبي داخل البيت الشيعي، سيكون أمل العراقيين في ولادة جمهورية جديدة شأناً مؤجّلاً قد لا يرى النور أبداً.
* كاتب عراقيّ مقيم في السويد