ما لم يكتمل من البراهين على اختلالات المشهد اللبناني بعد الانتخابات النيابية أكملته الفوضى اللبنانية في التعامل مع مشكلة سفينة التنقيب اليونانية في حقل “كاريش”. هكذا لم تكن مشاهدات الجلسات الأولى للبرلمان الجديد الدليل الوحيد على مدى الخفّة وعدم الكفاءة اللتين أصبحتا تميّزان الحياة السّياسية اللبنانية، بل إنّ إرباكات التعاطي الرسمي مع معضلة السفينة “إنرجين باور” أظهرت قوّة التصدّع الذي يصيب الدولة اللبنانية، بفعل سقوط الحدود بين مصالح الدولة وحسابات أفرقاء السلطة وصراعاتهم، ناهيك بسقوط الحدود بين الدولة وحزب الله المتحكّم بقرارات السلطة المشكَّلة من حلفائه الأقربين، وهما سقوطان مترابطان ترابطاً وثيقاً.
إذّاك لم تحمل السفينة اليونانية على متنها العناوين الجديدة – القديمة للصراع مع إسرائيل وحسب، بل حملت أيضاً كلّ عناوين المعضلة اللبنانية الراسخة والمأسويّة التي زادها الانهيار الاقتصادي رسوخاً ومأسويّةً. لا ريب أنّ أهمّ هذه العناوين يتمثّل في ازدواجية السلطة في لبنان، بين السلطة الرسمية الناتجة ولو بوسائل مشكوك فيها عن عملية سياسيّة ديمقراطية، وبين سلطة خارج الدولة مكرَّسة بحكم موازين القوى العسكرية والأمنيّة والسياسيّة، أي سلطة حزب الله، باعتبار أنّ تفوّق سلطة الحزب غير ناتجة عن حجمه التمثيلي في الحكم، بل عن سلاحه وقدرته على استخدام هذا السلاح. وهذا سببٌ رئيسيّ في تسخيف العملية الديمقراطية والتشكيك في جدواها ما دامت قوّة سياسيّة تمثيلية كبرى تستخدم أدوات غير سياسيّة لفرض قواعد اللعبة السياسيّة وآليّات إنتاج القرار داخل الدولة، ولا سيّما في القضايا الاستراتيجية والمصيرية كملفّ ترسيم الحدود جنوباً.
إرباكات التعاطي الرسمي مع معضلة السفينة “إنرجين باور” أظهرت قوّة التصدّع الذي يصيب الدولة اللبنانية، بفعل سقوط الحدود بين مصالح الدولة وحسابات أفرقاء السلطة
ما يفاقم هذه المعضلة أنّه لا يوجد تناقض سياسي بين هاتين السلطتين ما دام حزب الله جزءاً من السلطة الرسمية، وما دامت الأخيرة مشكَّلة من حلفائه حصراً، وبالتالي فإنّ السلطة الرسمية مسلِّمة مسبقاً بتفوّق الحزب عليها، وليست مستعدّة لخلق أدنى توازنٍ مع سلطة الحزب حتّى لو كان هذا التوازن ضروريّاً لإثبات صدقيّتها لا أمام العالم وحسب، بل أمام غالبيّة الشعب اللبناني. لكنّ الأدهى أنّه لا يوجد تكاملٌ بين هاتين السلطتين لأنّ عناصر القوّة العسكرية والأمنية التي يهدّد حزب الله باستخدامها ضدّ إسرائيل غير خاضعة من قريب أو بعيد لسلطة الدولة، وإنّما هي جزء أساسي من المعادلة الأمنيّة والعسكرية الإيرانية في المنطقة.
فوق الدولة لا وراءها
لذلك فإن تشديد حزب الله على أنّه “وراء الدولة” في ما تتّخذه من قرارات بشأن ملف ترسيم الحدود البحرية جنوباً مع استعداده لـ”تحمّل المسؤولية ربطاً بهذه القرارات”، يؤكّد المشكلة التي تطرحها ازدواجية السلطة في لبنان ولا يخفّف منها. فأيّاً يكن الهامش الذي يتمتّع به الحزب ضمن المعادلة الإيرانية في المنطقة، فإنّ أدنى تناقض بين الأولويّات الإيرانية والأولويّات اللبنانية في هذا الملف، لناحية التوقيت أو المضمون، كفيل برهن المصلحة اللبنانية بحسابات طهران. وهو ما يجعل النظر إلى مجريات هذا الملف من زاوية تطوّرات المفاوضات الأميركية – الإيرانية أمراً بديهياً، ما دامت واشنطن وسيطاً في هذا الملف، وما دامت طهران قادرة على التحكّم بمساراته اللبنانية بفعل قدرة حزب الله على توجيه قرارات السلطة اللبنانية بشأنه، أو بالحدّ الأدنى تعطيل اتجاهها في اتجاه لا يرضيه.
وإذا كان التهديد الإسرائيلي جنوباً عقب وصول السفينة اليونانية إلى حقل “كاريش” قد جمّد الخلاف السياسي حول سلاح حزب
الله، أو بالحدّ الأدنى دفع به إلى سرديّات مغايرة، سواء لجهة المزايدة السياسيّة على الحزب لعدم استخدامه سلاحه ضدّ إسرائيل، أو لجهة اعتبار أنّ الأولويّة الآن لردع إسرائيل عن الاعتداء على حقوق لبنان بكلّ الوسائل، فإنّ ذلك لم يشكّل ورقة قوّة إضافية بيد لبنان في وجه إسرائيل ما دامت السلطة اللبنانية، التي ينتجها هذا السلاح عينه ويحميها، منقسمةً على ذاتها في ملفّ ترسيم الحدود، وتتجاذب أفرقاءها الحساباتُ السياسيّة الشخصية، وكلّ ذلك أضعف موقف لبنان الإجمالي بإزاء إسرائيل.
السلطة الرسمية مسلِّمة مسبقاً بتفوّق الحزب عليها، وليست مستعدّة لخلق أدنى توازنٍ مع سلطة الحزب
“لعبة” المرسوم 6433
إذا كان ضعف الذاكرة السياسية أحد الأمراض السياسيّة الأشدّ فتكاً بالجسم اللبناني، فإنّه لم يمضِ وقتٌ كثير على طرح الخط 29 لينسى اللبنانيون كيف أدار التيار الوطني الحر وقتذاك حملة سياسيّة وإعلامية للضغط على رئيس الحكومة حسّان دياب ووزير الأشغال ميشال النجّار، المحسوب على تيار المردة، للتوقيع على تعديل المرسوم 6433. لكن ما إن وصل المرسوم المعدَّل إلى قصر بعبدا حتّى وُضع في الأدراج بانتظار وصول الوسيط الأميركي إلى بيروت. وعلى ما يبدو فقد نجح الوسيط في “إقناع” دوائر القصر بالتخلّي عن هذا الخطّ الذي شكّل طرحه خروجاً على “اتفاق الإطار” الذي تفاوض الرئيس نبيه برّي بشأنه مع الأميركيين لمدّة عشر سنوات ليكون إطاراً ناظماً للمفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل.
هذا واحدٌ من الأدلّة الكثيرة على تحكّم حسابات أفرقاء الحكم وصراعاتهم بملفّ ترسيم الحدود مع إسرائيل. خصوصاً أنّ هذا الملف شهد وما يزال يشهد معارك رئاسيّة، سواء لجهة المناكفات بين المرشّحَيْن الرئاسيّين حليفَيْ المقاومة، جبران باسيل وسليمان فرنجية، حول توقيع تعديل المرسوم 6433، أو لجهة الازدواجية السياسيّة والإعلامية في تعاطي التيار الوطني الحر مع الخط 29 الذي طرحه الجيش اللبناني. فتارةً يستخدم التيّار هذا الخط للمزايدة على خصومه وللمقايضة السياسيّة مع الأميركيين عقب فرض واشنطن عقوبات على رئيسه جبران باسيل، وتارةً أخرى لاستهداف قائد الجيش المرشّح المحتمل لرئاسة الجمهورية من خلال التشكُّك في جدوى طرح هذا الخطّ.
تدفع هذه الوقائع إلى السؤال عن مدى التقاطع بين الحسابات الاستراتيجية لحزب الله ومن ورائه طهران وبين الحسابات الشخصية لأفرقاء الحكم في لبنان حول ملف ترسيم الحدود البحرية جنوباً. لا سيّما أنّ توقيت طرح الخط 29، الذي أعاد خلط الأوراق في إطار المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل بالتزامن مع بداية عهد الرئيس الأميركي جو بايدن، أثار تساؤلات كثيرة عن ارتباط هذا الطرح بحسابات طهران في ظلّ العهد الأميركي الجديد الذي وعد باستئناف المفاوضات النووية مع إيران. وبالتالي فإنّ طهران كانت معنيّة بالإمساك بأكبر قدر ممكن من أوراق القوّة لتحسين شروط مفاوضاتها مع واشنطن، بما في ذلك ورقة ترسيم الحدود البحرية جنوباً.
إقرأ أيضاً: كاريش: خاصرة إسرائيل “الرخوة”
حتّى الآن لا جواب شافياً عن هذه التساؤلات الكثيرة ما دامت ازدواجية السلطة قائمةً في لبنان، وما دامت الحسابات الشخصية لأهل الحكم تطغى على المصالح الوطنية أيّاً تكن أهميّتها. وهو ما يجعل أيَّ قرارات تتّخذها هذه السلطة عديمةَ الشفافية. لذلك يبقى كلّ ما يدور في ملفّ ترسيم الحدود غامضاً وملتبساً ومثيراً للشكوك. وكلّ ذلك كان يفترض أن يشكّل حافزاً أساسيّاً للنوّاب التغييريّين لتعبئة الرأي العام ضدّ أفرقاء الحكم، خصوصاً الممسكين بهذا الملف الذين يواصلون ممارسة ألاعيبهم القذرة على حساب المصالح الحيويّة للشعب اللبناني المنكوب.