“الطائفة الأُمّة”: تمرض ولا تموت..

مدة القراءة 7 د

على الرغم من وهج نجاح قوى التغيير في إحداث خرق سياسي كبير المعاني والمرامي في الانتخابات الأخيرة، إلّا أنّ جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه وهيئة مكتبه، واستشارات تكليف رئيس جديد للحكومة يحتجز موعدها رئيس الجمهورية بغرض الابتزاز، أعادتا تسليط الضوء على تشرذم السُنّة وانعدام وزنهم السياسي.

هذا الحال كان محطّ تداول يوميّ في الأروقة السياسية والإعلامية قبل الانتخابات النيابية، مع ملاحظة أنّ هناك مَن مرّر بخبث كلمة “مكوّن” ليسبغها على السُنّة. اجتثّها من العراق وأتى بها إلى هنا. أهل السُنّة والجماعة لم ولن يكونوا يوماً مكوِّناً. هم الطائفة – الأمّة التي لم يتسرّب إليها الشعور الأقلّويّ على مدى قرن من تاريخ لبنان إلّا لهنيهات آنيّة، لأنّهم جزء من أمّة لا حدود لها جغرافياً وديموغرافياً. وفي الوقت نفسه يعتزّون بدولتهم الوطنية في لبنان كمرجع وحيد لا ثاني له، ولا بديل عنه، حالهم كحال إخوانهم في كلّ مكان. فالسُنّة هم بناة الدول، وتاريخهم ينطق بذلك بأبلغ لسان وأوضح بيان.

مشكلتنا نحن السُنّة أنّنا نفتخر بماضينا، لكنّنا لا نتعلّم منه. نريد محاربة حزب الله، لكنّنا نعقد معه الاتّفاقيّات والصفقات، فوق الطاولة وتحتها، وهي خاسرة مهما عظُمت أرباحها

غياب الحريري كشف التناقصات

انطلاقاً ممّا أفرزته صناديق الاقتراع على الساحة السنّيّة، وبمعزل عن أيّ سياقات سياسية، لا بدّ من الاعتراف بأنّ غياب الرئيس سعد الحريري فضح هشاشة السُنّة وعريهم السياسي. كان الرجل بمنزلة القشّة التي يختبئ السُنّة وراءها، فيُدارون عجزهم عن إنتاج مشروع سياسي متين به أو بالتصويب عليه. لا يعني ذلك بالطبع أنّ الحريري أسطورة سياسية، فقد تأذّى السُنّة معه كثيراً، لكنّه كان وما يزال يحظى بتعاطف بعض الجمهور السنّيّ، وهو أمر لم يُتَح لغيره، لأنّه أوّلاً ابن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولأنّه تسنّى له أن يرث  المشروع السنّيّ الوحيد على مستوى الوطن بكامله، وليس على مستوى منطقة أو حيّ أو شارع.

هذا الوزن الجماهيري الضخم، الذي ورثه سياسياً وعجز عن إدارته وعن حمايته، هو الذي أجبر خصومه على إنشاء تجمّع سياسي هو “اللقاء التشاوري” (نواب حزب الله السنّة في برلمان 2018) الذي ضمّ كتلة لامتناهية من التناقضات، التي ما إنْ تراجع الحريري خطوات إلى الوراء حتى انفجرت وجعلت من التجمّع حطاماً. والحال نفسه تقريباً مع النواب الجدد الخارجين من رحم الحريريّة. فبوجوده كانوا يستطيعون التصويب عليه، أمّا بعد تعليقه العمل السياسي فلم يستطِع الواحد منهم أنْ يقدّم أيّ بديل سياسي متماسك أو مُقنع، ولم يتجاوز حضوره المنطقة التي يعيش فيها.

بيد أنّ انكفاء الحريري كان ضروريّاً جدّاً لفضح حجم الخواء السنّيّ. إذ كان السنّة في الانتخابات بمنزلة قطار يعبر بباقي المشاريع السياسية الأخرى إلى أهدافها من دون أنْ تكون لهم قيمة فعليّة بل كانوا أرقاماً وحسب يتناتشها هذا وذاك.

السُنّة مهزومون. يجب الاعتراف بمنتهى الجرأة. ليس لأنّهم خسروا في الانتخابات وزنهم السياسي، علماً أنّ في نتائجها ما يبعث الأمل، بل لأنّهم لم يستطيعوا لسنوات خلت، على الأقلّ منذ التسوية الانهزاميّة المشؤومة، تقديم نموذج مشروع سياسي مقنع للناس كي يقفوا خلفه ويصوّتوا له. وإذا كانت النتائج قد أفرزت تحوّلاً سياسياً سنّيّاً نحو بروز المستقلّين والزعامات المناطقية، فإنّ الاستحقاق المقبل، ما دمنا مستمرّين على هذا النحو، سيؤدّي إلى بروز ثنائيّات وثلاثيّات ورباعيّات سنّيّة داخل كلّ منطقة صغيرة، بل ربّما داخل كلّ حيّ.

 

الأزمات مصنع الرجال

مشكلتنا نحن السُنّة أنّنا نفتخر بماضينا، لكنّنا لا نتعلّم منه. نريد محاربة حزب الله، لكنّنا نعقد معه الاتّفاقيّات والصفقات، فوق الطاولة وتحتها، وهي خاسرة مهما عظُمت أرباحها. ونريد أنْ تفتح دول الخليج خزائنها من أجلنا وأن تقاتل حزب الله عوضاً عنّا، حالنا في هذه كحال بني إسرائيل عندما قالوا لنبيّ الله موسى: “فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون”] سورة المائدة، الآية 24[، أو كحالهم عندما قالوا لطالوت: “لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده”] سورة البقرة، الآية 249[.

هي أزمة وجودية كبرى، ولا سيّما أنّ هناك مَن يروم تقسيم السُنّة إلى أقلّيّات صغرى متفرّقة متشرذمة متناحرة تسبح في بحر الأقلّيّات اللبناني. أزمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة فتاريخنا حافل بالأزمات الكبرى، وبعضها أشدّ وأقسى، لكنّنا دائماً ما كنّا نعود. ولدينا ملء الثقة بأنّنا سنعود.

واقعنا يحتّم علينا العمل على إنتاج مشروع سياسي وفكري جامع وواضح المعالم يحفظ قيمنا ويُعيد إلينا وزننا السياسي المفقود

مرّ هولاكو وحرق ودمّر وأفنى، ودخلت التّتار ديارنا كالريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلّا جعلته كالرميم. أسالوا الدماء وعطّلوا الصلوات وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة الذي اسودّت ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب. حتى إنّ بعض المؤرّخين المعاصرين للحدث أحجموا عن ذكر هذا المصاب الجلل، ويُنقل عن العالم الشهير ابن الأثير قوله: “ليت أمّي لم تلدني، ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً”.

لكنّ الله قيّض لنا قائداً، أوتي به أسيراً من بلاده في شرق آسيا بعدما كان أميراً، فصار عبداً مملوكاً كي ينقذ الأمّة من واحدة من أعظم المحن التي مرّت بها. عنيت به محمود بن ممدود الشهير بـ”سيف الدين قطز” الذي هزم التّتار في معركة عين جالوت وحطّم أسطورتهم، مع أنّه قُتل في طريق عودته ولم يتمكّن من التمتّع بالنصر التاريخي.

وكذلك أتى الصليبيّون الذين سفكوا من دماء المسلمين أنهاراً، لكنّهم رُدّوا على أعقابهم خائبين. كما مرّ تيمورلنك من هنا وأحرق المدن والحواضر السنّيّة التي نعيش فيها اليوم، لكنّ الله بعثها من رمادها. وغيرها الكثير والكثير من العواصف والأنواء التي تنوء بثِقلها الأمم، لكنّ السُنّة دائماً ما كانوا ينهضون من جديد.

 

فتح القلوب والعقول

ربّما نجح السُنّة في منع حزب الله وغيره من ابتلاع وجودهم. لكنْ في المقابل، فإنّ النواب السُنّة الجدد أغلبهم أشخاص من دون مشاريع سياسية، وبعضهم يمثّل مشاريع غريبة عن قيم أهل السُنّة وإرثهم، وفي المحصّلة ما يفرّقهم أكثر بكثير ممّا يجمعهم.

تُرى لماذا يُراد للسُنّة أنْ يُحشروا بين هويّتيْن متناقضتيْن لا تشبهان تاريخنا العظيم: بين الإرهاب وبين التغريب؟

لأنّنا نفتقر إلى المشروع السياسي المقنِع الذي يتوحّد السُنّة من حوله، والحجّة الفكرية التي تتظهّر من خلالها هويّتنا الحقيقية البعيدة كلّ البعد عن الهويّتين المذكورتين.

وكما قال الإمام والفيلسوف أبو حامد الغزالي، عندما سئل: “هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟”،  أجاب: “هو مجبور على الاختيار”، فنحن مجبورون على مواجهة واقعنا المرير. قدرنا المواجهة، وهي اليوم ليست بالسلاح، إنّما بالفكر، وما نحتاج إليه هو فتوحات فكرية وليست عسكرية، لأنّ الفتح هو فتح القلوب والعقول قبل كلّ شيء.

واقعنا يحتّم علينا العمل على إنتاج مشروع سياسي وفكري جامع وواضح المعالم يحفظ قيمنا ويُعيد إلينا وزننا السياسي المفقود. فالمشاريع الفردية لن تصل إلى مكان وستبقى أضغاث أحلام لا أكثر.

إقرأ أيضاً: لبنان والإصرار على الانتحار!

أو أنّنا سنبقى محكومين بالانتظار حتى يظهر رجل عظيم، يتمكّن من انتشالنا من الحال التي وصلنا إليها، كما حصل عندما ذهبنا إلى الطائف مهزومين ومكلومين والجراح في جسدنا ما تزال تنزف من فقدان المفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح ورشيد كرامي وسليم اللوزي وأحمد عساف وقافلة طويلة من الأفذاذ، لكنّنا عدنا من هناك برفيق الحريري، فعزّ أهل السنّة من بعد قهر، وسبحان المعزّ المذلّ.

يقول عمر بن الخطّاب: “إنّ هذه الأمّة تمرض لكنْ لا تموت، وتغفو لكنْ لا تنام، فلا تيأسوا فإنّكم ستردّون عزّكم”.

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…