لو كانت الكراهية تميتُ أحداً لأماتت معظم أعضاء طبقتنا السياسية الميمونة، لكنّها لسوء الحظ لا تُميت. فكيف نتخلّص نحن اللبنانيّين منهم بدون نزاعاتٍ دمويّة؟! كان الفقهاء المسلمون يعارضون التمرّد المسلَّح حتى على الحاكم الظالم. وحجّتهم أمران: أنّه مهما كان المتسلّط ظالماً فسيبقى له أنصار من المستفيدين، فيشبّ نزاعٌ وسفك دماء تفوق أضراره الصبر على الظلم. والأمر الثاني أنّ الذي يأتي للسلطة بالدم سيصبح دمويّاً مهما كانت نواياه حسنة.
ولماذا نذهب بعيداً إلى فقهاء العصور الوسطى؟
نحن اللبنانيّين جرّبنا التمرّدات المسلَّحة، وبعد الدماء الكثيرة كان الظَلَمة يبقون أو يعودون بعد أن نظنّ أنّهم ذهبوا لغير رجعة. وأوضح الأمثلة على ذلك الجنرال الرئيس أو الرئيس الجنرال. فقد ذهب إلى المنفى بعد عدّة حروبٍ دموية، وليته عاد وحده: عاد مع صهره فصار وصرنا مضرباً للأمثال في الخيبة التي ما بعدها خيبة.
نحن جرّبنا التمرّدات المسلَّحة، وبعد الدماء الكثيرة كان الظَلَمة يبقون أو يعودون بعد أن نظنّ أنّهم ذهبوا لغير رجعة
سؤال جبران باسيل أو نبيه برّي عن الجرأة على العودة لا يفيد لأنّهما مقتنعان أنّهما ضرورة وطنية، فلنسأل الرئيس الثالث نجيب ميقاتي. لقد كنتُ بين أوائل مَن رشّحوه للعودة بناءً على أنّه “خيتعور*” كما يُقال، ويلبس لكلّ حالةٍ لَبوسها. ويبدو لي الآن، وبغضّ النظر عمّا إن عاد أم لا، أنّه يعتبر نفسه ضرورتين وليس ضرورةً واحدة:
– ضرورة وطنية لأنّه يستطيع تلبية مطالب كلّ أبناء الطبقة الخالدة، وفي طليعتهم وارث الرئيس وزعيم الحزب المسلَّح.
– الأمر الثاني أفظع: هو مقتنعٌ أنّه ضرورة لأهل السُنّة الضعفاء لحفظ وجودهم في الدولة والنظام كأنّما كان هو غائباً عندما كان السُنّة يُذلُّون ويُهانون، وقد حضر الآن بوصفه منقذاً ليس له مثيل.
وإن لم يصدّق القرّاء الكرام فسأذكر سبباً ثالثاً لضرورة ميقاتي الوجودية:
– أنّ المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي لا يعرفان غيره. وقد أضاف للطنبور نغمة عندما نادى هو والرئيس العرب للمسارعة في إنجاد لبنان.
لماذا يأتي العرب تلبيةً لنداء الرئيس؟ ألأنّه عروبيٌّ منذ ولادته، أم لأنّه قدّم تضحياتٍ لقضايا العرب كانوا سيفتقدونها إلى أبد الآبدين؟ لولا تفضّله على العرب واللبنانيين بتولّي كرسي الرئاسة، والتفضّل أوّلاً وآخِراً بإشراك صهره الماجد، والتسليم لزعيم الحزب المسلّح، وإنفاق أكثر من أربعين مليار دولار على الكهرباء التي غابت في عهده وعهد الصهر 24 على 24؟
بالطبع هذه صرخات كراهية، وماذا تكون غير ذلك؟
إنّما ما هي بالنسبة لميقاتي العائد على صهوة جوادٍ أبيض؟
أنتم مخيّرون أيّها القرّاء الكرام، وأنا كذلك، في أيٍّ من المشاعر نختار قذفها في وجه رئيس الحكومة الدائم: الكراهية كما تجاه الآخرين؟ أم الازدراء شأننا مع سائر أعضاء الطبقة، أم المشاعر الممسوحة لأنّكم، وأنا معكم، لا نعرف الرجل حقّاً ونحتاج إلى زمنٍ مُضافٍ لقراءة سيرته ومسيرته وتحديد هويّته وانتمائه؟! ونحن نعلم أنّه لشدّة حرصه على هيبة رئاسة الحكومة سيعيد إعطاء وزارة الطاقة لباسيل، ووزارة المال لبرّي، ويا دار ما دخلك شرّ.
ومن أيام سعد الحريري الماجدة ليس للسُنّة في عكار موظف واحد بالدولة من الفئة الأولى أو الثانية. وفي أوّل حكومة ميقاتي زار وزير داخليّته الصهر للإرضاء ووعده بوظائف في طرابلس هذه المرّة ووفى، فالرجل وصحبه سادة الأوفياء.
يتحدّث الناس في العالم عن حرّية التعبير. ونحن اللبنانيين وفي السنوات الأخيرة الأكثر ممارسةً لتلك الحرّية التي لم تظهر لها جدوى. بل ويُقال إنّنا مارسْنا حرّية الاختيار في الانتخابات، وجدواها حتى الآن صفْريّة. لكنّ المراقبين خارج لبنان لا يعرفون أنّ حرّيات التعبير (وهي في الحقيقة فحيح وشتائم) كانت وما تزال ضروريةً لنا لكي لا ننفجر ونُصاب بالجنون والهذيان.! لقد صار كلّ اللبنانيين تقريباً إعلاميّين ويمارسون حرّيات التعبير، أمّا المشتومون فيمارسون حرّيات التقرير.
العرب لا يصدّقون
العالم لا يصدّق، والعرب لا يصدّقون أيّاً من الموجودين في المراكز السلطوية. فلماذا يساعدون لبنان وهم يعرفون أنّ الأموال ستُهدر كما هُدرت وسُرقت المبالغ السابقة ومن عرق اللبنانيين وودائعهم في البنوك.
ولنذهب أيّتها السيّدات الفضليات والسادة الأفاضل (وأعني قرّائي فقط!) باتّجاهٍ آخر. باتّجاه المدنيين التغييريّين، كما سمّوا أنفسهم. يُقال إنّ عددهم وصل إلى خمسة عشر نائباً ونائبة. ما استطعتم حتى الآن الاجتماع على شيء، ولن تؤثّروا في المصائر حتى لو اجتمعتم. أفلا يمكن لعشرةٍ منكم الاجتماع على برنامجٍ عمليٍّ تعلنونه للمواطنين الذين انتخبوكم، وتعلنون العمل عليه بقدر الوسع والطاقة بدلاً من هذه الفردانية العبثية التي لا تُخرج من خوفٍ ولا تغني من جوع؟ إنّ ما أنتم عليه يُثبت أنّ الشباب الذين صوّتوا لكم كانت أصواتهم احتجاجية على الطبقة السياسية، وانتهت مفاعيلها يوم الاقتراع. وهكذا ليس عندكم جمهور تحتكمون إليه، وعندما تنتهي أيّام الفخار وشماتة الخصوم لن يبقى لكم غير الهجرة أو الاستقالة، وأول وصولو شمعة على طولو.
حقوق المهرّبين
أمّا الناخبون السُنّة الاحتجاجيون وغير الاحتجاجيّين فكانوا عدّة أقسام: قسم اختاروا التغييريّين وهذا هو مصيرهم. وقسم اشترى أصواتهم حزب السلاح لمصلحة العونيين أو الثنائي الشيعي. وقسم اشترى أصواتهم “المستقلّون” وهم من كبار الأثرياء.
وآخ، لقد نسيتُ الإسلامويّين وأهل التهريب، وهؤلاء كما نعلم صوّتوا لبرّي وبو صعب. فحقوق ودور مَنْ يريد الرئيس ميقاتي حفظه أو حفظهم، ما دام معظم المنتخبين هذه فئاتهم. فالأمر كما قال أبو الطيّب المتنبّي: يا أمّةً ضحكت من جهلها الأُمم.
ولنذهب باتّجاه المسيحيين الذين صوّتوا للأحزاب كبيرةً أو صغيرة. أحسنُ مصائرهم أن يظلّوا معارضين لكلّ شيء على مدى السنوات الأربع المقبلة. وهذا ليس بالمصير الحسن، إلاّ إذا استطاعوا التأثير إيجاباً في اختيار رئيسٍ جديد للجمهورية غير الصهر العزيز، وأمثاله. وقد يكون ذلك صعباً وصعباً جدّاً. فالذي ينتظر اللبنانيّين هو الفراغ في الرئاسة في الغالب أو الرئاسة والحكومة.
سيقول الذين يتابعون مقالاتي في “أساس”:
ما هذا اليأس الكامل وقد كنتَ أحد أكبر المبشّرين بالتغيير؟!
هذا صحيح. لكنّ الجامد على زعْم حصول التغيير الكبير ليس أقلّ إيهاماً. أمّا الواقع فهو وراء ذلك كلّه. فحتى لو كان التغيير أكبر ممّا حصل، فإنّ بقاء حزب السلاح بكامل قوّته يجعل الموقف مسدوداً كما كان. الطائفة الشيعية (وهي ثلث اللبنانيين) باقية بلوكاً واحداً صلداً لا يتزحزح. فالحزب باقٍ على صدور اللبنانيين بسلاحه وحساباته الإقليمية والدولية. وقد استطاع حزب السلاح اختراق السُنّة والمسيحيين بعد كلّ حساب. كلّ ما في الأمر أنّ سعد الحريري غاب فلم تتكوّن كتلة سنّيّة وازنة من ورائه. لكنّه لو حضر بشخصه وبكتلة وازنة فسيكون حليفاً لحزب السلاح ولبرّي كما كان دائماً. وسيتصاعد الوهم من جديد أنّ التمثيل السُنّي في البرلمان وإدارة الدولة بخير، وهو لم يكن بخير منذ احتلال بيروت عام 2008.
إقرأ أيضاً: الانتخابات المريرة وبدايات التغيير
السلاح الإقليمي التوجّه والاستعمال يبقى سيّد الموقف في كلّ الأحوال. وهكذا فهناك إصرارٌ على الانتحار أقلّه لأنّ التسويات التي يمكن أن تدخل فيها إيران ليست على الأبواب. والتسوية إنْ حصلت بعد سنواتٍ فستكون على حساب الشعوب في لبنان وسورية والعراق وفلسطين، وهذا إن بقيت شعوبٌ ودول!
* كل شيء يتغيَّر ويَضمَحِلُّ، ولا يدوم على حالٍ