تعتمد أوروبا على الغاز الروسي للتدفئة المنزلية وللصناعة الثقيلة. لذلك فإنّ وقف استيراد الغاز الروسي يعني كلّ بيت وكلّ مصنع.
في عام 2014 قطعت روسيا الغاز عن أوكرانيا فارتجفت أوروبا من شدّة البرد، ذلك أنّ أنابيب الغاز الروسي تمرّ عبر هذه الدولة المتمرّدة على الهيمنة الروسيّة. ومنذ عام 2006 توقّف ضخّ الغاز الروسي إلى أوروبا عدّة مرّات. وفي كلّ مرّة كانت الدول الأوروبية ترفع الصوت عالياً من شدّة الألم.
كان هذا الألم دافعاً إلى البحث عن بديل. والبديل يحتاج إلى وقت طويل لتأمينه. كما أنّه يحتاج إلى تسويات سياسية معقّدة لتمريره. لم تكن الدول الأوروبية تملك من ترف الوقت ما يمكّنها من انتظار هذا البديل. ولم تطمئنّ ألمانيا أساساً إلى البديل. بل ازدادت اعتماداً على الأصيل: الغاز الروسي. ففي عهد المستشارة أنجيلا ميركل عُقدت صفقة روسية – ألمانية قضت بإنشاء خط أنابيب يمتدّ من روسيا إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق، متجنّباً العبور الصعب والمتوتّر دائماً في أوكرانيا.
عاد المخطّطون الأوروبيون الذين يبحثون عن بدائل عن الغاز الروسي إلى مشاريع قديمة جرى إحياؤها من جديد. منها الاستيراد من إيران
أُبرمت الصفقة بعد فشل محاولة استبدال الغاز الروسي بغاز أميركي. فالغاز الأميركي أعلى كلفة، ثمّ إنّ استيراده يحتاج إلى إقامة منشآت خاصة لاستقباله في المرافئ. نجح المشروع الألماني – الروسي، مشجّعاً على العمل على بناء خط ثانٍ عبر بحر البلطيق. وهذا يعني اطمئناناً ألمانيّاً وأوروبيّاً إلى تدفّق الغاز من دون المرور عبر أوكرانيا. ولكنّه كان يعني أيضاً اعتماداً أوروبيّاً على الطاقة من مصدر معادٍ لحلف شمال الأطلسي. ذلك أنّ أيّ خلاف سياسي أوروبي – روسي يعطي سيّد الكرملين الفرصة لخنق الاقتصاد الأوروبي وتعطيله.
جاءت هذه الفرصة في عام 2018 عندما وصل استيراد أوروبا من الغاز الروسي إلى الذروة.
في 29 كانون الأول من ذلك العام، طلبت الدول الأوروبية من روسيا إطلاق سراح 24 عسكريّاً من جنود البحرية الأوكرانية جرى اعتقالهم، أو أسرهم، في شهر تشرين الثاني بعد مصادرة سفنهم العسكرية الثلاث. رفضت روسيا الطلب، فأدّى رفضها إلى توتّر العلاقات الأوروبية معها، وانعكس التوتّر السياسي على إمدادات النفط الروسي.
هنا أدركت أوروبا جدوى البحث عن البديل. وبالفعل فإنّ البرلمان الأوروبي اتّخذ في 12 كانون الأول من ذلك العام (2018) قراراً بوقف العمل بمشروع “نورد ستريم 2″، وهو مشروع نقل الغاز الروسي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، لأسباب أمنيّة. ولكن في ذلك الوقت كان قد تمّ مدّ 370 كيلومتراً من الأنابيب عبر البحر، ولذلك لم يكن وقف المشروع ممكناً.
عدم العثور على البديل
جرى البحث عن بديل آخر، فكان التوجّه لاستيراد الغاز من أذربيجان (بحر قزوين)، وكان العمل بهذا البديل قد بدأ منذ وقت طويل، لكن بشكل بطيء. مع ذلك تمّ إنجاز ثلاثة أرباع المشروع، وبقي مدّ أنابيب القسم الأخير عبر بحر الأدرياتيك المواجه لإيطاليا. وهو مشروع بلغت تكاليفه 40 مليار دولار. وكان يفترض أن ينقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر إيطاليا ابتداء من عام 2020. ولكنّ ذلك لم يحدث لأنّ المشروع الروسي – الألماني كان قد تمّ إنجازه، وبدأ الغاز الروسي يتدفّق مدراراً إلى الأسواق الأوروبية، ثمّ إنّ قدرة أذربيجان على الإنتاج لا تزيد على 16 مليار متر مكعّب في العام، أي ما يعادل اثنين في المئة من الكميّة التي تحتاج إليها أوروبا مجتمعة.
الآن عاد المخطّطون الأوروبيون الذين يبحثون عن بدائل عن الغاز الروسي إلى مشاريع قديمة جرى إحياؤها من جديد. منها الاستيراد من إيران. ولكنّ مشكلة الملف النووي حالت دون ذلك. ومنها الاستيراد من تركمانستان، لكنّ الغاز التركماني لا بدّ له، حتى يصل إلى شاطئ الخليج العربي ومنه إلى أوروبا بحراً، من المرور عبر إيران. ثمّ إنّ تركمانستان متعاقدة مع الصين لتصدير معظم ما تنتجه من الغاز.
ومن مشاريع نقل الغاز الروسي إلى دول جنوب أوروبا، كان مشروع مدّ خطّ أنابيب عبر تركيا. وكان يُفترض أن يكون الخطّ جاهزاً في العام الماضي. وكان هناك مشروع لبناء خطّ ثانٍ موازٍ له، إلا أنّ ذلك توقّف.
أمام هذه الصعوبات السياسية كان الغاز الروسي وحده جاهزاً وطريقه سالكة عبر أنابيب بحر البلطيق وأسعاره متواضعة نظراً إلى تكلفة إنتاجه المنخفضة، إلى أن انفجرت أزمة أوكرانيا وتوقّف (ولو إلى حين) كلّ شيء.
إقرأ أيضاً: ماذا تعني ذكرى حرب حزيران؟
من هنا أهميّة اكتشاف النفط والغاز في البحر المتوسط، وهو الاكتشاف الذي يضع لبنان على خارطة الاهتمامات الدولية باعتباره إحدى الدول المرشّحة لإنتاج النفط والغاز. ذلك أنّ نفط المتوسط هو أقرب إلى أوروبا، وخاصة إلى دول الجنوب الأوروبي، التي ترتبط بدول الشمال بخطوط أنابيب كانت معدّة أساساً لاستقبال الغاز الأذريّ من بحر قزوين.
لم تعد الحدود السياسية للدول تشكّل عائقاً في وجه شبكات خطوط أنابيب النفط والغاز. ولبنان ليس استثناء من هذا الواقع الدولي الجديد. لقد أصبحت خارطة الأنابيب هي الأهمّ. وهي خارطة متغيّرة ولو أنّ الأنابيب ثابتة.