تقود الخفّة في السياسة إلى أسوأ المدارك وأحطّها. وهي أبرز شروط التفاهة السياسية التي أصبحت حالة معمّمة تجتاح المجتمع. غالباً ما ترتبط الخفّة والتفاهة بالحالة الشخصية والنفسية لمن يتعاطى الشأن العام. وعندما تغلب الطبائع الشخصية تترمّد الأبصار، وتضيع البصائر. فيصبح الخفيف عرضة لتقاذف رياح متعارضة، يميل حيث تميل الرياح، ويبحر حيث تقذفه وتلاطمه الأمواج. فمن لا يعزّ نفسه وموقفه لن يجد من يعترف له بذلك، ولا من يعزّه، بل من يذلّه ويستدرجه إلى حالة الإذلال. وحزب الله في لبنان هو أمهر مَن يقوم بذلك، من خلال منح نفسه حقّ إجراء فحوص الدم والوطنية. فلطالما ركّز مسؤولو الحزب وجيوشه الإلكترونية حملاتهم على خصومهم في السياسة، حتى يضطرّ الخصوم إلى التبرير أو إلى تقديم فروض الطاعة والبراءة.
لجأ الحزب بذكاء إلى دفع كلّ خصومه، سواء كانوا قوى سياسية أو نواباً مستقلّين أو نواب الثورة، إلى تبنّي موقفه بالمطالبة بالخطّ 29 والضغط على رئيس الجمهورية في سبيله
على ذلك مثلان واضحان وضوح الشمس لا لبس فيهما:
– المثل الأول تجربة سعد الحريري وتيار المستقبل وما تبقّى منه من نواب دخلوا البرلمان في انتخابات العام 2022.
– والمثل الثاني هو نواب التغيير أو نواب الثورة، الذين يحاولون اختراع أدوار لأنفسهم لا تتعارض مع الحزب للحصول على صكّ براءة أو إعلان موقف يقضي بالإشادة بهم وتأييدهم.
حريريو حزب الله
أثبت التعاطي بخفّة سياسية قدرته على شرذمة إحدى أكبر وأهمّ الطوائف في لبنان، وهو الحال الذي وصل إليه السُنّة من التشتّت، وصولاً إلى الضياع بين الكتل النيابية، والضلوع في التهريب الفعليّ والتهريب السياسي على غرار تهريب انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه. فلولا 3 نواب سُنّة اثنان من الشمال وثالث من الجنوب الذين انتخبوا الياس بو صعب لَما نجح الرجل وفاز بمنصب نائب رئيس مجلس النواب. ولولا عدد أكبر منهم لما فاز الرئيس نبيه برّي برئاسة المجلس من الدورة الأولى.
حصل هذا بالارتكاز على خفّة بعض النواب السُنّة، وحاجة حزب الله إلى أصواتهم، مقابل حاجتهم للبحث عن موقع يرضي الطرف القويّ. فذهب هؤلاء باتجاه التصويت لبرّي وبو صعب، ومن خلالهم وعبر استغلالهم نجح حزب الله في تكريس تجربة الـ65 نائباً.
بناءً على هذا التعداد، أصبح حزب الله صاحب “أكثرية” ما، ومَن منحه إيّاها هم سُنّة تيار المستقبل أو ما تبقّى منه ومن الحريريّة. بمعنى أوضح، ومن خلال إجراء بوانتاجات توزُّع الكتل النيابية، وبالاستناد إلى تجربة أول جلسة برلمانية، يتّضح انتقال سُنّة تيار المستقبل في التصويت إلى صفوف الثامن من آذار.
ما دفع هؤلاء إلى هذه الضفة هي جملة اعتبارات، غالبها شخصيّ يرتبط بانتقام سعد الحريري من نفسه ومن حلفائه ومن كلّ الخطّ السياسي الذي كان يمثّله، والجانب الشخصي الآخر يرتبط بحسابات هؤلاء النواب أو بارتباطاتهم وحاجتهم إلى حماية مصالحهم داخل بنية الدولة أو خارجها وعلى هوامشها وحدودها.
لبنان لديه حقّ أبعد من مساحة 860 كلم مربّعاً، لكنّ الدولة اللبنانية ربّما تفاوض على هذا الخط لأنّها تعتبره الأكثر واقعيّة، فيما الحزب يتّخذ موقفاً إلى جانب الدولة ويقف خلف القرار الذي ستتّخذه. وهكذا يحمي الحزب نفسه
أزمة نواب الثورة
في المقابل، سيكون من شأن الخفّة السياسية التي تصيب بعض نواب التغيير أو نواب الثورة أن تقضي على كلّ الآمال والأحلام التي عُلّقت عليهم. وهنا ليس المقصود طريقة إدارتهم لحضورهم ومشاركتهم في الجلسة البرلمانية الأولى، ولا في عملهم داخل البرلمان، إنّما مقاربتهم لملف ترسيم الحدود، وذهابهم سريعاً إلى موقف شعبوي بغضّ النظر عن صحّته، وفي إطار حرب النكايات والضغط على رئيس الجمهورية ميشال عون الممتنع عن توقيع تعديل مرسوم 6433 الذي يشير إلى أنّ حقّ لبنان في المساحة المائية البحرية هو 2,290 كلم مربّعاً بدلاً من مساحة 860 كلم مربّعاً. وبمعزل عن أحقّيّة لبنان بهذه المساحة، إلا أنّ هؤلاء يتناسون أنّهم ينجرفون إلى اتّخاذ موقف على يمين حزب الله، ويمنحونه غطاءً لن يتمكّن أحد من نزعه منه فيما بعد.
– أوّلاً: لبنان لديه حقّ أبعد من مساحة 860 كلم مربّعاً، لكنّ الدولة اللبنانية ربّما تفاوض على هذا الخط لأنّها تعتبره الأكثر واقعيّة، فيما الحزب يتّخذ موقفاً إلى جانب الدولة ويقف خلف القرار الذي ستتّخذه. وهكذا يحمي الحزب نفسه.
– ثانياً: السبب الأساسي وراء الضياع اللبناني هي حسابات شخصية أيضاً، بدأت من جهة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي سعى إلى انتزاع هذا الملف من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وذهب على طريق المزايدة عليه للمطالبة بتحصيل مساحة أكبر من التي تمكّن برّي من تحصيلها. وفيما بعد تراجع عون عن مطلبه بتعديل المرسوم ورفض التوقيع بناء على حسابات سياسية ونتيجة زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل، يومها، إلة بيروت، وإقناعه عون بعدم التوقيع على تعديل المرسوم.
إقرأ أيضاً: النواب السنّة في الاستشارات: وزن الريشة
– ثالثاً: لجأ الحزب بذكاء إلى دفع كلّ خصومه، سواء كانوا قوى سياسية أو نواباً مستقلّين أو نواب الثورة، إلى تبنّي موقفه بالمطالبة بالخطّ 29 والضغط على رئيس الجمهورية في سبيله، ونجح في الحصول على غطاء رسمي ببيانين صادرين عن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وصفا ما تقوم به إسرائيل بالعمل الاستفزازي والعدائي. بناء عليه أصبح الحزب صاحب الموقف الأقوى في التفاوض وفي الردّ العسكري إن احتاج إليه، لأنّه حينئذٍ لن يتمكّن أحد من لومه بناء على المواقف التي اتُّخذت. هذه تجربة جديدة يثبت فيها الحزب قدرته على استدراج خصومه إلى الملعب الذي يريده. وإذا افترضنا أنّ الدولة ذهبت إلى توقيع الاتفاق على أساس الخط 23 سيكون لدى الحزب غطاء من خصومه بأنّ مطالب لبنان تتركّز على الخط 29، وسيكون لدى الحزب ذريعة للاستمرار بالمطالبة بتحرير تلك المنطقة المائية، وهذه المرّة باعتراف خصومه الذين لن يتمكّنوا من مطالبته بتسليم السلاح قبل تحرير شبعا البحريّة.