الخوف من الدولة لا ينطبق بالطبع على حالة لبنان. إذ كلّ الناس في البلد، وبسبب الغياب الطويل للدولة أو السلطة السياسية المنتظمة، يريدون الدولة ويطالبون بعودتها من منفاها أو من أيدي الجهات التي تحتجزها أو ترتهنها. لكنّ الوضع ليس على هذا النحو في بلدان عربية أخرى حيث تبدو سلطة النظام ثقيلة الوطأة على الفئات الأوسع من المواطنين.
وكنتُ وأنا أراقب تطوّرات أحداث “الربيع العربي” عام 2013، وبخاصّةٍ في تونس ومصر وسورية واليمن، قد نشرتُ مقالةً، صارت فصلاً في كتابي الصادر عام 2014 “أزمنة التغيير.. الدين والدولة والإسلام السياسي” بالعنوان الوارد في رأس هذه المقالة: “في الخوف من الدولة وفي الخوف عليها”. فقد تهيّبنا جميعاً يومها ما كان يُراد بسورية ومصر واليمن، وكان لدينا أملٌ كبير بما يجري بتونس.
معروفٌ أنّ الإيرانيين يفتخرون باحتلال أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. ما بقيت هناك دولة للخوف منها أو الخوف عليه.! وما نحن فيه اليوم وفي ست أو سبع دول هو حالة “اللادولة”
فلماذا يريد الناس الدولة والنظام؟
لأربعة أسبابٍ رئيسية:
– الأمن والاستقرار الداخلي.
– الحفاظ على وحدة البلاد.
– الحماية من التدخّلات الخارجية.
– وتحسين أحوال الناس الاجتماعية والمعيشية.
كان القلق على مصر من أمرين:
– اضطراب حبل الأمن الداخلي.
– والتغيير الراديكالي الذي تمثّل في وصول جماعات الإسلام السياسي للسلطة في البرلمان ورئاسة الجمهورية.
فبسبب تفكّك الشرطة وتراجع هيبتها ما عاد الناس آمنين في حياتهم اليومية، وبسبب صعود تيارات الإسلام السياسي صار الطابع المدني للدولة مهدَّداً، وهو الأمر الذي لم يحصل في مصر بالذات لحوالي مئتَيْ عام.
أمّا في سورية واليمن فقد اضطربت الأمور الأربعة الأساسية المطلوبة من أيّ دولةٍ أن تقوم بها: الأمن والاستقرار، ووحدة البلاد، والسيادة تجاه الخارج، وأحوال المواطنين الاجتماعية والمعيشية. وما دامت الأمور قد آلت هذه المآلات في الدول الثلاث (وأُضيفت إليها ليبيا بعدها بقليل) فقد انتقلت مشاعر المواطنين، خلال عامين لا أكثر، من الخوف من الدولة (وبسبب ذاك الخوف قامت حركات التغيير في الأساس عام 2011) إلى الخوف عليها. لأنّه عندما يتوقّف النظام السياسي عن القيام بمهامّه الأساسية، ولا تتكوّن أو تظهر البدائل المعقولة، يصبح من أوهام الرفاهية والتخيّل الطُموح إلى التغيير من أجل أنظمةٍ أكثر عدالة، وأكثر حرصاً على الحقوق الأساسية للمواطنين.
أمّا في مصر فقد تدخّل الجيش فاستعاد الأمن والاستقرار، وانصرف إلى إحقاق المطالب الأُخرى، وأهمّها التنمية المستدامة الكفيلة بتحسين أحوال المواطنين المعيشية، وتقدّم البلاد. وأمّا في الدول الأخرى فقد ظلّت الأوضاع تزداد سوءاً حتى وصل الأمر إلى الواقع الحالي حيث لا تقوم السلطات (يقول المغاربة: السُلَط!) بأيٍّ من المهامّ الأربع، وحيث تعدّدت السُلَط وتقاسمت أراضي الدول بينها، وحيث لم يبقَ أحد من القريب والبعيد إلّا ومدّ يده إليها. وهذه الظاهرة المفزعة (بعدما أُضيف إلى بلدان الاضطراب أيضاً وأيضاً كلّ من لبنان والسودان) لا تتّجه إلى الانحسار، بل إلى التمدّد.
الأيادي الإيرانية السوداء
معروفٌ أنّ الإيرانيين يفتخرون باحتلال أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. ما بقيت هناك دولة للخوف منها أو الخوف عليه.! وما نحن فيه اليوم وفي ست أو سبع دول هو حالة “اللادولة”.
تعالوا لندرس آثار حالة اللادولة الآن في كلٍّ من سورية ولبنان:
1- سورية منقسمة إلى خمس دويلات أو خمس سلطات: النظام القديم بدمشق وبعض المدن الكبرى، والروس في المناطق التي يسيطرون عليها من حول قاعدة حميميم وفي جنوب سورية، والإيرانيون على الحدود مع لبنان ومع العراق ومناطق بجوار دمشق، والأكراد (السوريون وغير السوريّين) في شرق الفرات وبعض غربه بحمايةٍ من 900 جندي أميركي وعدّة قواعد صغيرة، والأتراك مع حلفائهم من المعارضة السورية على الحدود التركية مع إشراف (مع الروس) على مناطق خفض التصعيد فيما بين إدلب وحلب.
المشكلة الحاضرة الآن أنّ الأتراك يريدون التمدّد من جديد بعد مرّاتٍ سابقة، وهدفهم المعلن السيطرة على طول حدودهم مع سورية بعمق 30 كيلومتراً، بحجّة أنّهم يريدون حفظ أمنهم القومي من عسكر حزب العمّال التركيّ الأصل والمسيطر في مناطق الأكراد السوريين. الأتراك يريدون الآن الحصول على مدينتَيْ تل رفعت ومنبج غرب الفرات. ويقولون إنّهم يهدفون، بالإضافة إلى توسيع مناطق حماية الحدود، إلى إعادة وتوطين مليون سوري في شمال سورية من أصل 3.5 ملايين لجأوا إليهم.
المشروع صعب جدّاً مع أنّ الاشتباكات بدأت، لأنّ الأميركيين والروس ضدّه كما صرَّحوا. والآن يتعاون الأكراد مع نظام دمشق، ومع الروس (بالإضافة إلى الأميركيّين!) لإفشال العملية العسكرية التركية. وما أردتُ قراءة المشاريع التدخّليّة الغريبة على سورية في هذا العرض، بل معالجة الموضوع الأساسي: مدى قدرة الدولة السورية أو النظام على إحقاق أحد الأهداف الرئيسية لأيّ نظام سياسي معاصر: حماية الحدود والسيادة. ونحن ما نزال في هَمّ مطار دمشق الذي أغار عليه الإسرائيليون قبل أيامٍ قليلة فدمّروا بعض منشآته أو مدارجه.
الخوف من الدولة لا ينطبق بالطبع على حالة لبنان. إذ كلّ الناس في البلد، وبسبب الغياب الطويل للدولة أو السلطة السياسية المنتظمة، يريدون الدولة ويطالبون بعودتها من منفاها
لماذا يريد الناس (والعرب منهم) نظاماً ودولة؟
ذكرنا مسألة النظام في سورية. فلنذهب إلى لبنان وفي مسألةٍ مشابهةٍ تماماً:
2- في لبنان جرت مفاوضات طويلة على الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلّة. ولا نعرف لماذا كان نبيه برّي (منذ عام 2011 كما يُقال) هو الذي يقود المفاوضات مع أنّه كان هناك دائماً رؤساء للحكومة ورئيس للجمهورية. إنّما فجأةً وعندما بدأت المفاوضات علناً تدخّل رئيس الجمهورية (بحكم صلاحيّاته!) بعد أربع سنوات من انتخابه لقيادة التفاوض بوساطة أميركية.
المعروف أنّ الرئيس غيَّر أساس التفاوض من الخط 23 في عهد برّي وعهدته، إلى الخط 29، والفرق بينهما أكثر من 1430 كيلومتر مربّع. لقد صار الطرفان عون وبرّي يتنافسان ويتنازعان فيما بينهما مزايدةً وشعبويةً، وبالطبع من وراء الجميع حزب السلاح.
المهمّ أنّ المفاوضات فشلت وغادر الأميركي والإسرائيليون قبل لبنانيّي الرئيس، الذي ما لبث أن تخلّى عن الخط 29، من دون أن يعود رسميّاً إلى الخط “البِرّيّ”. وبسبب الفوضى والمزايدات وعدم الاهتمام باحترام النفس وبالمصالح الوطنية، ضاع وقت ثمين حتى جاء المحتلّون أخيراً بسفينةٍ للتنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازَع عليها بين الخطّين. وانتظر اللبنانيون الواهمون أن يتدخّل حزب السلاح المسيطر على كلّ شيء بحجّة حماية الحدود، فيردع الإسرائيليّين الأعداء عن مزارع شبعا البحرية، كما يزعم دائماً أنّه ردعهم عن مزارع شبعا البرّيّة! لكنّ زعيم الحزب المسلّح قال إنّه ينتظر موقف الدولة. على الرغم من أنّه قال في مناسباتٍ سابقة إنّه ليس في لبنان دولة. والآن ينتظر الجميع، وفي مقدَّمهم الرئيس القويّ، وصول الوسيط الأميركي / الإسرائيلي هوكشتاين ليتدخّل في النزاع.
فهل تظنّون أنّ الرئيس القوي واقفٌ عند هذا الحدّ؟
أبداً. إنّه ليبلغ من اهتمامه العظيم أنّه تشاور مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وقبل الاستشارات النيابية الملزمة لتشكيل الحكومة، أرسل الرئيس العتيد رجلاً من آل النصولي إلى الرئيس برّي ليقدّمه إليه قبل الإعلان عن ترشيحه لرئاسة الحكومة المقبلة بدون استشارات النواب وقبلها، وبدون شورى ولا دستور!
ما عانى لبنان في حروبه الأهليّة المتكاثرة ضياعاً كالضياع الذي يعانيه اليوم. عام 2006 شنّ حزب السلاح هجوماً على إسرائيل من دون أن ينتظر موقف الدولة التي يعتبرها غير موجودة. والآن هو لا ينتظر موقف اللادولة، بل ينتظر موقف الذين زوّدوه بالسلاح. في هذا الوقت تتوتّر العلاقات بين إيران وأميركا، لكنّ الطرفين لم ييأسا من إمكان العودة للاتفاق. ولذلك ينبغي أن يبقى الحزب على سلاحه حتى يرى الإيرانيون ضرورةً للحرب. هم يعرفون أنّ هذا السلاح لا يمكن استعماله غير مرّةٍ واحدة، وهي الخراب بعينه. وبالطبع لا يهمّهم خراب لبنان المتمادي، إنّما اهتمامهم بما يحقّق مصالحهم كما يعتقدون.
إقرأ أيضاً: “الطائفة الأُمّة”: تمرض ولا تموت..
في لبنان يكاد ينتهي كلّ شيء باستثناء سلاح حزب السلاح، وصلاحيّات فخامة الرئيس المتمثّلة بآراء صهره الذي يحاول استغلال الملف البحري للخروج من العقوبات الأميركية، ولا اهتمام فيما وراء ذلك. وإلّا فكيف تضيع عشرات المليارات من الدولارات على الكهرباء منذ عام 2008 وما تزال جماعة جبران باسيل تتولّى الملف ولا كهرباء في البلد. وهذا حتى لا نذكر مئات التجاوزات الأخرى على الدستور والقوانين وقوت المواطنين وعيشهم.
زعيم حزب السلاح محقٌّ في أنّنا لا نملك دولة. ولأنّنا نعرف جميعاً أنّ تصحيح الاختلالات (وأوّلها نزع سلاح الحزب) لا يكون إلّا بالدولة، يتكرّر سؤال يتّصل بضرورات استحضارها على ألسنة كبار اللبنانيين العقلاء كلّ يومٍ تقريباً. فأكبر المخاوف اليوم هو غياب الدولة أو الإصرار على تغييبها من أجل الاستمرار في تجويع الناس واستعبادهم وقتلهم، وليس في لبنان فقط، بل في عدّة بلدانٍ عربية.