تشير التطوّرات التي تشهدها سوريا منذ اندلاع الحرب الروسيّة على أوكرانيا، إلى أنّ المنطقة كلّها تبدو مقبلة على أحداث كبيرة يصعب التكهّن بما ستخلّفه على الأرض ومدى تأثيرها على خرائط الدول.
لعبت روسيا دوراً في غاية الأهمّيّة على الصعيد السوري، خصوصاً بالنسبة إلى منع الانفلات، وإن كان ذلك على حساب الشعب السوري وطموحاته المشروعة بالتخلّص من نظام العبوديّة الذي فُرض عليه منذ عام 1970.
دعمت روسيا إيران وميليشياتها وحالت دون سقوط النظام. لكنّ ما يميّز دورها قبل أيّ شيء آخر هو التنسيق مع إسرائيل التي كانت لديها في الماضي، منذ احتلال الجولان في عام 1967، مصلحة في بقاء النظام الأقلّويّ مسيطراً على سوريا.
لم يحصل التقارب التركي – الروسي من فراغ، بل كان نتيجة مباشرة لسلسلة من الإجراءات الروسيّة أجبرت رجب طيب إردوغان على الخضوع لمشيئة موسكو وتفادي أيّ عرقلة لدورها في سوريا
ما لا يمكن تجاهله في أيّ وقت أنّ إسرائيل احتلّت الجولان في حزيران 1967 فيما كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع في سوريا. بعد ثلاث سنوات وبضعة أشهر، أي في 16 تشرين الثاني 1970، صار حافظ الأسد الحاكم الأوحد والوحيد لسوريا، وأصبح في شباط من عام 1971 أوّل رئيس علويّ لها.
يميّز التطوّرات الأخيرة في سوريا إصرار تركيا على شنّ عملية عسكريّة في الشمال السوري. يؤكّد ذلك أنّ الفراغ الذي خلّفه الانشغال الروسي في أوكرانيا يفتح الشهيّة التركيّة، مثلما يفتح شهيّات أخرى مثل الشهيّة الإيرانيّة التي تثير في الظروف الراهنة قلقاً إسرائيلياً بالغاً.
لا تستطيع أنقرة البقاء خارج اللعبة الدائرة في سوريا. هذا لا يعود إلى اهتمامها بالوضع الكرديّ والمخاوف من قيام كيان كرديّ شبه مستقلّ في الأراضي السوريّة فحسب، بل يعود أيضاً إلى أنّ تركيا تعتبر نفسها شريكة في اقتسام الكعكة السوريّة، مثلها مثل إيران وإسرائيل وحتّى روسيا التي باتت مكتفية بوجود عسكري في الساحل السوري… أي في طرطوس واللاذقيّة (القاعدة الجوّيّة في حميميم) تحديداً.
من الواضح أنّ هناك فراغاً تسبّب به الجانب الروسي المأخوذ بحرب أوكرانيا التي تجاوز عمرها مئة يوم. كان الجانب الروسي في سوريا، منذ تدخّله المباشر في الحرب التي تستهدف الشعب السوري في أيلول 2015، بمنزلة ضابط إيقاع. أرضى إسرائيل وأرضى إيران في الوقت ذاته، وضبط تركيا إلى حدٍّ ما بعدما أقام علاقة خاصّة معها تُوِّجت بشراء رجب طيب إردوغان منظومة صواريخ مضادّة للطائرات من طراز إس-400. أثار ذلك غضب الغرب، خصوصاً أميركا، من جهة، وكشف نوعاً من التواطؤ مع فلاديمير بوتين وخوفاً منه، من جهة أخرى.
تشير التطوّرات التي تشهدها سوريا منذ اندلاع الحرب الروسيّة على أوكرانيا، إلى أنّ المنطقة كلّها تبدو مقبلة على أحداث كبيرة يصعب التكهّن بما ستخلّفه على الأرض ومدى تأثيرها على خرائط الدول
لم يحصل التقارب التركي – الروسي من فراغ، بل كان نتيجة مباشرة لسلسلة من الإجراءات الروسيّة أجبرت رجب طيب إردوغان على الخضوع لمشيئة موسكو وتفادي أيّ عرقلة لدورها في سوريا.
لعب الجانب الروسي، في السنوات السبع الماضية، دوراً محوريّاً في سوريا التي أراد استخدامها ورقة في مفاوضاته مع الأميركيين. هؤلاء تمركزوا عسكرياً في منطقة الجزيرة، ووضعوا يدهم على معظم الثروات السوريّة من نفط وغاز ومياه وزراعة، فضلاً عن توفير حماية للأكراد ممثّلين بقوات سوريا الديمقراطيّة (قسد).
من الطبيعي أن تعاود تركيا التحرّك في سوريا، وأن تخرج من القيود التي وجدت نفسها أسيرة لها في الماضي، أي القيد الروسي والقيد الإيراني والقيد الأميركي. كانت الخطوة الأولى من أجل التخلّص من هذه القيود في اتجاه إسرائيل التي باتت حساباتها السوريّة مختلفة بعدما غرقت روسيا في الوحول الأوكرانيّة في ضوء الحسابات الخاطئة لفلاديمير بوتين. اعتقد الرئيس الروسي، في 24 شباط الماضي، أنّ غزوة أوكرانيا ستكون نزهة، وأن ليس من أحد سيتمكّن من الوقوف في وجهه، تماماً كما حصل في سوريا. نسي أنّ أوكرانيا في أوروبا، وأنّ ما هو مسموح في سوريا، حيث يستطيع قتل العدد الذي يشاء من المواطنين السوريين، من دون سؤال أو جواب، غير مسموح به في أوكرانيا…
يجمع بين تركيا وإسرائيل العجز الروسي عن تنظيم إدارة اللعبة في الجنوب السوري. كانت روسيا قادرة على وضع حدود، وإن نظريّاً، للانتشار الإيراني. كذلك كانت قادرة على التنسيق مع إسرائيل المهتمّة بمنع اقتراب الميليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري” من الجولان كثيراً. الأهمّ من ذلك كلّه، كانت كلّ الضربات، التي توجّهها إسرائيل إلى الميليشيات الإيرانيّة أو إلى مواقع تخزين السلاح الإيراني، تتمّ بعلم موسكو. في المقابل، كان هناك تفاهم روسي – تركي في ما يخصّ الشمال السوري. ليس سرّاً أنّ انسحاب الثوار من حلب وتسليم الجزء الأكبر من المدينة إلى قوات تابعة للنظام كانا بالتنسيق بين روسيا وتركيا. كان بين الشروط التركيّة وقتذاك عدم مجيء بشّار الأسد إلى المدينة والتصرّف فيها تصرّف المنتصر. بالفعل، لم يذهب بشّار إلى حلب وبقي يتحدّث عن انتصار تحقّق للنظام، لكن من بعيد.
من المفيد في الأسابيع القليلة المقبلة مراقبة ما ستفعله تركيا عن كثب، والسعي إلى معرفة الحدّ الذي ستذهب إليه في تدخّلها في سوريا، ومدى عمق التنسيق مع إسرائيل. لم يعد في الإمكان تجاهل وجود مصالح مشتركة باتت تجمع بين تركيا وإسرائيل في سوريا في ظلّ غياب الدور الروسي الفاعل والنشط.
يصعب على إسرائيل الوقوف مكتوفةً حيال التوسّع الإيراني في الجنوب السوري، وهو توسّع يؤثّر أيضاً على المملكة الأردنيّة الهاشمية التي تشكو منذ أسابيع عدّة من زيادة تهريب الأسلحة والمخدّرات إلى أراضيها انطلاقاً من الجنوب السوري.
إقرأ أيضاً: حرب 1967 مستمرّة… بين منطقين
أمّا تركيا فهي ليست في وارد ترك الفراغ الناجم عن الانشغال الروسي بأوكرانيا. ثمّة من سيستغلّ هذا الفراغ بطريقة أو بأخرى. إيران جاهزة لذلك. إلى ذلك يبقى الهمّ التركي الأوّل همّاً كرديّاً، وهذا سيفرض فتح قنوات مع أميركا وليس مع إسرائيل فقط.
في النهاية، غيّرت أوكرانيا قوانين اللعبة السوريّة التي تعني تركيا مباشرة. يحدث ذلك في وقت تبدو إيران ووجودها في سوريا تحت المجهرين الأميركي والإسرائيلي بسبب برنامجها النووي وسلوكها عبر ميليشياتها المذهبيّة…