لا يوجد زعيم خليجي واحد يثق بأنّ الرئيس جو بايدن وإدارته يمكن وصفهم بـ”الحليف التاريخي القوي الذي يمكن الاعتماد عليه والثقة بدعمه”.
أكثر من 70 عاماً من حلف نفط المنطقة مع واشنطن نجح بايدن في شهور أن يضيّعه ويبدّل الثقة بالشكّ، والتحالف بالانعزال، والحماية بالتخلّي، والتموضع القويّ بالانسحاب والفراغ.
أكّد لي مصدر خليجي مطّلع له إلمام كامل بملفّ العلاقات الأميركية-الخليجية: “أخطأنا حين توهّمنا أنّنا أكثر من مجرّد برميل نفط، وافترضنا أنّنا أهمّ من مشتري سلاح وتكنولوجيا وغذاء من الأميركيين”.
وأضاف: “إنّنا مثل ذلك الرجل الثري الذي اكتشف فجأة أنّ مَن كان يعتقد أنّها شريكة عمره تعامله كرصيد في البنك أو ما يسمّونه بالإنكليزية (Sugar Daddy)، وهو مصطلح يعني الشيخ المسنّ الذي يتولّى الإنفاق على فتاة جميلة تصغره بسنوات تحت سقف معادلة مفهومة تقول “الشباب والجمال مقابل المال والرعاية”. في ظلّ معادلة “الشوغر دادي” هذه سعّرنا النفط والسلع الاستراتيجية بالدولار الأميركي، وحافظنا على مستويات الإنتاج بما يخدم مصلحة المستهلكين، وأعطينا الأولويّة للسلاح الأميركي، وتحمّلنا مذلّة أسلوب تعامل إسرائيل مع الشعب الفلسطيني ومسألة القدس الشريف”.
مصدر خليجي مطّلع له إلمام كامل بملفّ العلاقات الأميركية-الخليجية: أخطأنا حين توهّمنا أنّنا أكثر من مجرّد برميل نفط، وافترضنا أنّنا أهمّ من مشتري سلاح وتكنولوجيا وغذاء من الأميركيين
واستيقظنا ذات يوم لنجد الفتاة الجميلة قد غادرت الشرق الأوسط وذهبت بسلاحها وتحالفها ووعودها إلى جنوب بحر الصين والمحيط الهادئ لتعاشر رجلاً آخر في منطقة أخرى أصبحت لها الأولويّة.
بعد الخروج المرتبك والمخزي للقوات الأميركية من كابول، وبعد سحب بطاريات الباتريوت الأميركية من الخليج، وبعد رفع اسم الحوثيين من قائمة الإرهاب، وبعد عبارات فريق بايدن الجارحة عن حقوق الإنسان في حقّ السعودية والإمارات ومصر، أصبحت العلاقة الحميمة مع واشنطن مستحيلة، والثقة مفقودة، والشكّ في النوايا هو أساس العلاقة.
الخوف على ودائع السعوديين
يقول خبير ماليّ سعودي قريب من مركز صناعة القرار: “بعد القرارات التعسّفية التي اتّخذها الغرب بقيادة واشنطن ضدّ رؤوس الأموال الرسمية والخاصة للحكومات والمؤسسات والأفراد الروس، أصبح لديّ تخوّف شديد على أكثر من 2.5 تريليون دولار هي قيمة سندات وودائع وأصول وحسابات شخصية لمواطنين سعوديين في الولايات المتحدة”.
وأضاف: “أصبح ممكناً أن نستيقظ ذات صباح ونُفاجأ بقرار تجميد أموال مؤسسات أو أفراد ينتمون إلى دول مثل الصين أو دول الخليج العربي تحت أيّ دعوى سياسية أو تحت أيّ عقوبات يمكن تشريعها”.
باختصار لا ثقة بشخص بايدن أو بالحزب الحاكم الديمقراطي أو بأيّ وعود وتعهّدات تاريخية قُطِعت منذ لقاء الملك المؤسّس عبدالعزيز بن عبدالرحمن والرئيس الأميريكي فرانكلين روزفلت على ظهر باخرة في البحيرات المُرّة.
وأخيراً لا ثقة بأنّ واشنطن إذا خُيِّرت بين مصالحها مع طهران أو أنقرة أو تل أبيب وبين تلك التي تجمعها مع دول الخليج العربي، فهي بالتأكيد سوف تنحاز إلى هؤلاء وسوف تبيع حلفاءها العرب.
بناءً على ما سبق، لا ثقة بمبيعات سلاح متقدّم من واشنطن، وخير مثال هو تردّد إدارة بايدن في تنفيذ تعهّد إدارة ترامب ببيع طائرات “إف 35” للإمارات. وكان ردّ الشيخ محمد بن زايد، خلال لقائه جايك سوليفان، مستشار الأمن الأميركي، هادراً وقويّاً حينما أخبر سوليفان أنّ أبوظبي صرفت النظر عن الصفقة واستبدلتها بصفقة القرن لشراء الرافال الفرنسية.
أسوأ ما يمكن أن يحدث لعلاقة قوة كبرى بقوة أصغر هو فقدان الصغير لثقته واحترامه للكبير.
أميركا والنفط
يكفي أن نتأمّل سلوك الإدارة الأميركية خلال الأيام القليلة الماضية تجاه ملف كميّة الإنتاج اليومي لدول “أوبك بلاس” الخليجية من النفط لتعويض النقص في إنتاج النفط الروسي الذي أدّى إلى رفع أسعار البنزين في محطات الوقود في الولايات المتحدة.
إنّ سعر البنزين مسألة جوهرية في الاقتصاد الأميركي، وهو يؤثّر بشكل مباشر في مكوّن الميزانية اليومية للمواطن الأميركي، خاصة أنّ البلاد على حافة الانتخابات النصفية لمجلسَيْ الشيوخ والنواب والاستعداد لمعركة الرئاسة.
تعالوا نتابع شريط الأحداث:
– وصول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى السعودية بعد ظهر يوم الأربعاء الماضي، وهو لقاء كانت لا تريده إطلاقاً إدارة بايدن.
– فجأة يوم الخميس تقول تصريحات للبيت الأبيض إنّ بايدن لم يتراجع عن موقفه من سياسة السعودية الخاصة بحقوق الإنسان، وإنّه على وعده بضرورة جعل السعودية دولة منبوذة من المجتمع الدولي.
– اجتماع “أوبك بلاس” وإقرار زيادة الكميّة في اجتماع استغرق 11 دقيقة فقط.
– ترحيب وزير الخارجية الأميركي بالدور السعودي في مجال الطاقة، والتأكيد على أهميّة دور السعودية في المنطقة.
– ترحيب الخارجية الأميركية بدور الرياض في إقرار الهدنة مع اليمن لمدّة شهرين.
– الإعلان عن احتمال زيارة بايدن السعودية والمنطقة في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، والإشادة بدور الملك سلمان ووليّ عهده.
في 72 ساعة تمّ الانتقال الحادّ والكامل من التهديد بمعاقبة السعودية واعتبارها نظاماً منبوذاً ومقاطعتها سياسياً، وجرى التحوّل إلى اعتبارها شريكاً قويّاً وحليفاً تاريخياً ودولة محورية تستحقّ الزيارة والإشادة بمليكها ووليّ عهده. كلّ ذلك له علاقة بالكميّة الإضافية التي تعهّدت الرياض بتحمّل إنتاجها يوميّاً.
عقلية إدارة بايدن عقلية ثأرية تريد عدم زيارة لافروف لأيّ دولة، وتريد زيادة إنتاج الطاقة والغاز للإضرار بالاقتصاد الروسي وللتعويض عن الكميّات التي قُطعت عن الأسواق بسبب المقاطعة الدولية لنظام بوتين.
عليهم أن يتعوّدوا في واشنطن على شكل علاقة جديدة تقوم على أنّ هؤلاء يضعون مصلحتهم الوطنية والحفاظ على مراكز حكمهم في الأولويّات حتى لو عارض ذلك مصالح واشنطن
لا تصدّقوا أنّ واشنطن صاحبة أيّ حدّ أدنى من المواقف المبدئية.
في 72 ساعة ينتقل تقييم واشنطن من “الشيطان” إلى “الملاك”، من “الدولة المنبوذة” إلى “الدولة المحورية”، من “نظام منتهٍ سياسياً” إلى “رجال كلّهم حكمة وشجاعة”.
باختصار لقد تعلّمنا الدرس التاريخي القائم على 3 حقائق:
1- انتهى الحلف الذي بدأ بين عبدالعزيز وروزفلت.
2- لا تصدّق أيّ وعد أميركي.
3- انتهى إلى الأبد الاهتمام الاستراتيجي بالمنطقة وانتقل إلى جنوب بحر الصين والمحيط الهادئ.
بناء عليه يتعامل كلّ من الرئيس عبد الفتاح السيسي والشيخ بن زايد والأمير محمد بن سلمان والملك عبدالله الثاني مع واشنطن على أنّها “شرّ لا بدّ منه” و”حقيقة لا بديل عنها”، لكنّها أيضاً “حليف سابق لا يمكن الثقة به”.
إقرأ أيضاً: بايدن في اليابان وكوريا: سائحٌ… وليس امبراطوراً
قصة حبّ قديمة وانتهت، ومعها لا يمكن عودة علاقة “الشوغر دادي”.
الحقيقة التي يصعب على عقل إدارة بايدن أن يصدّقها أنّ السيسي وبن سلمان وبن زايد وعبدالله الثاني حلفاء وليسوا عملاء.
لذلك عليهم أن يتعوّدوا في واشنطن على شكل علاقة جديدة تقوم على أنّ هؤلاء يضعون مصلحتهم الوطنية والحفاظ على مراكز حكمهم في الأولويّات حتى لو عارض ذلك مصالح واشنطن.