الأباتي ثابت: رائد النهضة الليتورجيّة المارونيّة

مدة القراءة 5 د

المكان جامعة الروح القدس. الزمان صيف 1982. راهب شابّ. غزا الشيب شعره باكراً. يسير ذهاباً وإياباً في ممشى الجامعة الطويل. يحمل أوراقاً وقلم رصاص. يقلّب الأوراق. يقرأ النصوص. ويدوّن على هوامشها.

كنت برفقة والدي لمساعدته في تنجيد مقاعد صالون الجامعة. توقّف عندنا. ألقى التحيّة الرهبانيّة “المجد لله”. سأل والدي عن سير العمل. وقال لي: “بيّك معلّم قبضاي”. سألني عن دروسي. أجبته بأنّني أتابعها. وقال: “عفاك كمّل دروسك”. بعد مغادرته سألت والدي من هو. أجابني أنّه: أبونا يوحنا ثابت رئيس الجامعة (1980-1986).

بعد عشر سنوات التقيته. أنا مبتدئ في الدير وهو مدبّر عامّ. سألني عن والدي. بعد حوالي شهرين، أصبح رئيساً عامّاً للرهبانيّة (1993-1998) إثر وفاة الأباتي عمانوئيل الخوري المفاجئ. في عهده احتفلت الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة بيوبيلها المئوي الثالث (1695-1995).

القارئ غير المسيحيّ، وأحياناً المسيحيّ، ربّما لا يفقه معنى كلمة “ليتورجيا”. إنّها الطقوس الدينية بنصوصها وموسيقاها ولباسها وحركاتها على اختلافها. وهي علمٌ، تابعه الأب ثابت في روما

رائد التجديد الليتورجي

في الدير بدأت مرحلة اكتشافي ذاك الراهب. لم أكن أعلم أنّ قلمه كان حاضراً في كلّ مرّة شاركت في قدّاس، وفي صلاة الميلاد، وفي صلاة الآلام، وفي رتبة إكليل، وفي صلاة جنّاز… فهو مَن أعدّ تلك الصلوات ورتّبها وكتب العديد من نصوصها. إنّه عن حقّ رائد نهضة التجديد الليتورجيّ في الكنيسة المارونيّة، وعالِم مارونيّ من علماء لبنان.

القارئ غير المسيحيّ، وأحياناً المسيحيّ، ربّما لا يفقه معنى كلمة “ليتورجيا”. إنّها الطقوس الدينية بنصوصها وموسيقاها ولباسها وحركاتها على اختلافها. وهي علمٌ، تابعه الأب ثابت في روما. وتزامنت دراسته مع انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني (1961-1965)، المجمع الذي أحدث نهضة تاريخيّة في الكنيسة الكاثوليكية في العالم. اطّلع على تعاليمه. وتوقّف طويلاً عند دعوته الكنائس الشرقيّة إلى إعادة إحياء تراثها اللاهوتي والليتورجيّ بعد قرون من “اللَيتنة” (أي تأثير الكنيسة اللاتينية الغربيّة).

في نهاية الستّينيّات من القرن الماضي، وبعد حصوله على الدكتوراه في العلوم الليتورجية عاد الأب ثابت إلى لبنان. في تلك الفترة عاد الجيل الأوّل من الرهبان الذين تخصّصوا في الخارج وراحوا ينهضون بالجامعة الناشئة. أسّسوا الكليّات والمعاهد في الفلسفة واللاهوت والتاريخ والليتورجيا والموسيقى وغيرها. حينها برزت جامعة الكسليك كمركز للتفكير في الشؤون الوطنيّة. ذاك النشاط الذي عرفه عامّة اللبنانيّين. ولا يزال يطبع جامعة الكسليك حتى اليوم. لكن خلف حجارة الجامعة الصفراء كان هناك نهضة دينيّة تراثيّة فنّيّة. انطلقت من الكسليك إلى كلّ الطائفة المارونيّة في لبنان وبلدان الاغتراب.

لم تكن الليتورجيا والإصلاح الليتورجيّ بالنسبة للأب ثابت مجرّد علم. إنّما قضيّة ونهج حياة. فكان ينزعج في كلّ مرّة يرى خروجاً على النص أو عن ترتيب الصلاة

الليتورجيا في لبنان

في عام 1969 أسّس الأب يوحنّا ثابت معهد الليتورجيا في جامعة الكسليك. وبدأت مسيرة إحياء التراث الليتورجي المارونيّ. كانوا مجموعة من الرهبان: اللاهوتي بطرس القزّي، والليتورجيّ يوحنا ثابت، والليتورجيّ أيضاً عمانوئيل الخوري، والموسيقيّ لويس الحاج، والمتخصّص في الكتاب المقدّس والشاعر يوحنّا الخوند. هذا الأخير كان قد بدأ ترجمة أناشيد دينية عن اللغة السريانية (وهي لغة الموارنة الدينيّة منذ قرون حتى اليوم) إلى العربيّة. وكان يتعاون في هذا العمل الشاقّ الذي استغرق سنوات مع الأب روفايل مطر، الشاعر الموهوب والمُرهف. في زيارة لدير مار مارون المعوش في عام 1993 وقف الأب الخوند في زاوية كنيسة الدير المهدّمة. أحنى رأسه وصلّى طويلاً. قلت له: “المشهد محزن”. أجابني: “بهالزاوية على مدى سنوات، كنّا نترجم أنا وبونا روفايل وننظُم التراتيل وندقّق فيها”. وأضاف: “كنّا نقعد قدّام يسوع نصلّي ونشتغل”.

لم تكن الليتورجيا والإصلاح الليتورجيّ بالنسبة للأب ثابت مجرّد علم. إنّما قضيّة ونهج حياة. فكان ينزعج في كلّ مرّة يرى خروجاً على النص أو عن ترتيب الصلاة. ولم يكن يتردّد في إعطاء الملاحظة. كان ينزعج البعض أحياناً. ولكنّه كان يصرّ على ملاحظته انطلاقاً من قاعدة كنسيّة أنّ الصلاة الجماعيّة يجب أن تكون منظّمة ومُتقنة، وإلّا عمّت الفوضى في الكنيسة.

اللقاء الأخير

منذ سنوات، وقبل أن تتدهور حالته الصحيّة، عدت والتقيت به في دير العذرا في فتوح – كسروان، الدير الذي أحبّ وقضى فيه غالبيّة سنواته بعد نهاية ولايته كرئيس عامّ للرهبانيّة. كان قد تخطّى الثمانين من العمر، ولا يزال يبحث في المخطوطات المارونيّة السريانيّة. يُخبر عنها بشغف وحماسة الشباب.

خلال استقصائي عن حياته بعد وفاته، علمت أنّ تلك الأوراق التي كان يقلّبها ذاك الراهب الشابّ وهو يسير في ممشى الجامعة كانت نصوص صلوات طُبعت على أوراق على آلة “الاستنسل” في مرحلة تجريبيّة. يصلّيها رهبان الكسليك صباحاً ومساءً، ثمّ يناقشها الأب ثابت مع رفاقه في العمل لتوضيح فكرة لاهوتية أو لتصحيح شعر مكسور. تلك النصوص أصبحت فيما بعد صلوات الكنيسة المارونيّة.

إقرأ أيضاً: مشهدان في بيروت: حزن وغناء على رصيف واحد

يوم وداعه حضر بطريرك الطائفة ولفيف من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات. أتوا ليقولوا له: شكراً لأنّك علّمتنا صلوات آبائنا وأجدادنا.

عذراً أباتي. الانتخابات، ما قبلها وما بعدها، شغلتني عن وداعك.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…