“معذرة على الإطالة فالحكاية عصيّة على الاختصار”.
كان شهرا رمضان وأيّار أكثر الشهور حرارةً ونزفاً. فلقد تجمّعت فيهما كلّ العناصر التي تؤدّي إلى انفجارات أوسع وأعنف: دم غزير سال من ضفّتي الصراع، وتداخل مناسبات لم تهيّج الذاكرة فحسب، بل هيّجت المبادرات الفعّالة من جانب الفلسطينيين.
كانت أيّاماً قليلة من عمر الزمن الطويل، محت من الواقع أيّ احتمال لترويض الصراع وإعادته إلى مسار سياسي تفاوضي أو ما هو قريب منه، وأوقفت الوسطاء التقليديّين أمام جدار عجز لم يستطيعوا حياله أكثر من تحقيق بعض تهدئة مؤقّتة تضع الجمر تحت الرماد من دون أن تطفئ جذوته الجاهزة للاشتعال من جديد، والأمر لا يحتاج إلى أكثر من شرارة.
ما أرعب إسرائيل، “الدولة السطحيّة والعميقة”، أنّ كلّ الأحداث القويّة التي وقعت خلال رمضان وأيّار وما قبلهما كان مركزها، في القول والفعل: القدس
كلّ أحداث رمضان وأيار، وإن كانت الأعنف والأكثر دمويّة خارج إطار الحروب الواسعة، إلا أنّها كانت غير مفاجئة. حتى إنّ إسرائيل “دولة الأمن والجيش والاستخبارات” لم تخفِ رعبها من الشهرين وما قبلهما بقليل، فقامت بوضع مئات الآلاف تحت السلاح ورفدتهم بقوى جديدة. وكأنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وصل ذروته القصوى. وكأنّ كلّ ما عُمل في الماضي من أجل احتوائه وإيجاد حلول وسط له أضحى أضغاث أحلام وأوهام وحسب، لا تجرؤ حتى المخيّلة على استعادتها.
ما أرعب إسرائيل، “الدولة السطحيّة والعميقة”، أنّ كلّ الأحداث القويّة التي وقعت خلال رمضان وأيّار وما قبلهما كان مركزها، في القول والفعل: القدس. ليس فقط كمكان نوعيّ للمواجهات، بل كحالة صراع مصيري بين طرفين حول المستقبل. والأمر هنا لم يكن صراعاً على حرّية الصلاة في الأقصى والقيامة ولا من أجل تثبيت الأمر الواقع المتّفق عليه بشأن المقدّسات، بل من أجل هدف أكبر هو على الجانب الإسرائيلي تثبيت المدينة كعاصمة موحّدة للدولة العبرية، وليس للفلسطينيين منها وفيها أكثر من بعض التسهيلات التي تمرّ من نفق ضيّق اسمه “الاعتبارات الأمنيّة”، بحيث يملك شرطي فتحه أو إغلاقه.
الانتصار الفلسطيني الأكبر
أمّا على الجانب الفلسطيني، وهذا هو بيت القصيد، فهي أهمّ وأعمق عامل توحيد شعبيّ فشلت في صناعته القوى السياسية ونجح في خلقه وتأجيجه الناس العاديون. وهي أيضاً المولد ذو المفعول السحريّ لكلّ ما من شأنه إيقاظ الوطنية الفلسطينية، ليس في المدينة وأكنافها وحسب، وإنّما حيث وجد فلسطينيون في كلّ مكان، وحيث يوجد مؤمنون بعدالة الحقوق الفلسطينية وبطلان الاحتلال القسري لها.
لم يقتصر الأمر على المطالبات والأُمنيات، بل وصل حدّ فعل هزّ الدولة العبرية “القويّة” من أساساتها وجعلها، على الرغم من كلّ المظاهر السطحية والاحتفالية، عاجزة تماماً عن رؤية عاصمة حقيقية. إذ لم تعُد موحّدة، وبداهةً لم تعُد “أبديّة”. وهذا ما اعترفت به نسبة عالية من الإسرائيليّين الذين ينتمون إلى اجتهادات سياسية وفكرية متباينة ومتعارضة. ففي القدس، وبالذات القديمة منها، ظهر حَمَلة أعلام 67 ليس كمحتفلين بمدينة دانت لهم، بل كمحتلّين لمدينة ليست لهم.
في لحظة تاريخية اعترف الإسرائيليون الرسميون أصحاب القرار بأنّ عاصمتهم الموحّدة والأبدية ستعود إلى الفلسطينيين ولو ببعض النواقص
مرّت عقود على احتلال القدس، ثمّ توحيدها المستحيل، ولم تبقَ وسيلة لهضمها وتطبيع وضعها كعاصمة مكرّسة مستقلّة أسوة بكلّ عواصم الدول إلا وتمّ انتهاجها، ولم يعُد يُعرف على وجه الدقّة كم من المليارات أُنفقت، وهي أكثر من أيّ تصوّر على كل حال! وكم من مقتلة حدثت! وكم من حريق أُشعل! والنتيجة التي لم تظهر فقط في شهرَيْ رمضان وأيار وإنّما منذ الأيام الأولى لاحتلالها وإلى ما لا نهاية، قالت: إن لم يتمكّن الفلسطينيون من جعل القدس عمليّاً عاصمتهم، إلا أنّهم تمكّنوا من منعها أن تكون عاصمة لإسرائيل.
ضياع “القدس” الإسرائيلية
في لحظة تاريخية اعترف الإسرائيليون الرسميون أصحاب القرار بأنّ عاصمتهم الموحّدة والأبدية ستعود إلى الفلسطينيين ولو ببعض النواقص. ولِمَن نسي كان ذلك خلال المفاوضات التي اقتربت من أن تصبح تسويات في “كامب ديفيد” التي جمعت بيل كلينتون وإيهود باراك وياسر عرفات.
أعادت أحداث الشهرين الكبيرين طرح القضية من جذورها وليس من قشورها. ولقد حبس العالم أنفاسه خوفاً من انفجار وشيك ينقل الاهتمام الدولي من البؤرة الأوكرانية الكونيّة إلى البؤرة الفلسطينية الشرق أوسطية. وهنا تراجعت في الاهتمام فوارق القوى المتحاربة في قلب أوروبا لينهض فارق قوّة من نوع مختلف لا حلّ ولا حسم له بفعل طائرات الـ F35 ومفاعل ديمونا النووي. فارق قوّة أقرب إلى المعجزة أنجزه الفلسطينيون الذين بلا سلاح، في وجه الإسرائيليين الذين في يدهم كلّ السلاح. ففي أوكرانيا وروسيا لا F35، لكنّها موجودة لدينا ويبدو أنّها لا تنفع حين يكون الناس والحقوق هما السلاح.
مرّت مسيرة الأعلام ووصل أشرس عنصريّ عرفته البشرية إلى باحة الأقصى ووصل قبله وبعده آلاف ممّن هم على شاكلته، تحت حراسة الدولة وليس الشرطة وحسب. لم يكن لدى الفلسطينيين بعضٌ ممّا لدى الإسرائيليين من إمكانيات ضخمة أغرقت المدينة بالمتظاهرين والأعلام. ومن خلال العصبيّة التي ظهرت تبيّن أنّ الرايات الإسرائيلية التي ارتفعت بالآلاف لا تثبّت وحدة ولا سيادة ولا مصيراً. وعلى الرغم من كلّ ما يُسجّل وبصورة حاسمة لمصلحة إسرائيل كتفوّق عسكري وتحالفي ومادّي، إلا أنّ ما سُجّل مقابل ذلك أنّ حكاية “الموحّدة والأبديّة” لم تعُد قائمة وباعتراف كثير من الإسرائيليين. فقد ظهر توصيف جديد وواقعي للرواية الإسرائيلية مفاده “القدس الموحّدة الأبدية أضحت العاصمة الإشكالية والمستحيلة”.
إقرأ أيضاً: بينيت: ولّى زمن حصانة نظام إيران
عودة إلى العنوان أذكّر بأنّ “حماس” تصدّرت المشهد في فصله الأخير وصارت قبلة للزوّار والوسطاء، وهذا أمر بديهي في زمن لا يُحكى فيه إلا مع مَن يحمل السلاح ويستخدمه. هنا، وبكلّ الرفق أوجّه جملاً قصيرة للإخوة في “حماس” ومَن معهم من فصائل لأقول: لقد أخطأتم بالمبالغة في التهديد والوعيد، وهو ما رفع أسقف التوقّعات منكم، لكنّكم، وربّما مضطرّون، وهو كذلك بالضبط، أصبتم في قرار وفعل اللامواجهة ليس استجابةً لجهود الوسطاء، وإنّما بفعل عدم القدرة على تحمّل ما ستخلّفه المواجهة الواسعة من دم وركام فوق الركام الذي لم يرفع بعد. ونصيحتي: تواضعوا كثيراً في اللغة لأنّ المغالاة والمبالغة تشبهان الصعود إلى أعلى الأبراج، والباقي عندكم.
القدس، كما برهنت منذ احتلالها ووهم توحيدها في حزيران 1967، تمتلك في ذاتها قوّة تأثيرها، وكلمة السرّ هي الناس، وأوّلهم مَن لم ولن يغادروها.