باغتيال مسؤول الحرس الثوري الكبير حسن صياد خدائي في قلب طهران، وصولاً إلى تفجير واحدة من أهمّ منشآت تطوير الأسلحة والطّائرات المُسيّرة في بارشين، يبدو الأمر وكأنّه أكبر من حروب الظلال، أو جولة جديدة من اللكمات بين إسرائيل والنظام الإيراني، بل يعكس تطوّراً استراتيجيّاً يهدف إلى ما تسمّيه تل أبيب “قطع رأس الأخطبوط”، وليس فقط أذرعه، وبدلاً من اللعب في الملعب الخارجي لإيران، يتمّ ضربها في عقر دارها، وضرب هيبة “قبضتها الأمنيّة”، وهو ما تسبّب لطهران بإحراج بالغ.
لقد اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في مستهلّ جلسة الحكومة الإسرائيلية أنّ عهد حصانة النظام الإيراني الحالي قد ولّى.
غير أنّ المتحدّثين باسم النظام في طهران يقولون إنّ “إسرائيل تلعب بالنار، ونحن سنردّ بنار مضاعفة من جهة غير متوقّعة”.
الجميع يدرك أن لا حكومة بينيت ولا أيّ حكومة مقبلة أو سابقة في إسرائيل، مستعدّة للمخاطرة في خصومة جوهرية مع الإدارة الأميركية
رصدت أجهزة الأمن الإسرائيلية “محاولة جدّية” من إيران لاستهداف إسرائيليّين في تركيا ردّاً على اغتيال خدائي، الأمر الذي دفع مجلس الأمن القومي الإسرائيلي إلى تشديد التحذيرات من السفر إلى تركيا. وأفادت القناة 12 الإسرائيلية بأنّ مسؤولين أمنيّين إسرائيليين تحدّثوا هاتفيّاً مع نحو 100 مواطن إسرائيلي موجودين في تركيا، وحذّروهم “بشكل شخصي” من خطر التعرّض لهجوم إيراني، وطالبوهم بالعودة فوراً إلى إسرائيل بعدما خلصت المؤسسة الأمنيّة الإسرائيلية إلى أنّ جهات إيرانية اتّخذت قراراً باستهدافهم.
من جهتها، أفادت قناة “كان” العبرية أنّ مسؤولين أمنيّين يخشون من هجوم صاروخي أو انتحاري بطائرة مسيّرة من قبل الجماعات المدعومة من إيران، وتمّ وضع أنظمة دفاع جوّي مختلفة، بما في ذلك القبّة الحديدية، في حالة تأهّب قصوى، وتمّ تعديل انتشارها بعد التهديد.
كشفت تصفية خدائي، وقبلها اغتيال رئيس البرنامج النووي البروفيسور محسن فخري زادة في 2020، وعلماء إيرانيين نوويين كبار، أنّ إيران مخترَقة حتى النخاع من قبل الموساد الإسرائيلي.
وبخلاف التصفيات السابقة التي نُفّذت على أرض إيران لم يكن الهدف هذه المرّة مرتبطاً بالبرنامج النووي الإيراني، بل بفيلق القدس في الحرس الثوري.
خطة ضرب “النووي”
حسب المعلومات المتداوَلة، فإنّ العقيد حسن صياد خدائي مسؤول عن تهريب السلاح لحزب الله والميليشيات الإيرانية في سورية، وهو المشرف على التموضع الإيراني في سوريا وعلى الحدود مع إسرائيل. وفي المستوى العسكري في إسرائيل، يعتقد المسؤولون أنّهم لا يستطيعون العمل ضدّ أهداف نووية يجري التفاوض عليها في فيينا، لكن يستطيعون العمل ضدّ أهداف استراتيجية، مثل مراكز تطوير الصواريخ البالستية، أو ضدّ الحرس الثوري، أو ضرب ما تعتبره تل أبيب “استراتيجية الملقط الذكي” التي تتّبعها طهران من خلال إحاطة تل أبيب بحماس في غزّة وحزب الله في لبنان والميليشيات في سورية، بهدف شلّ حركة إسرائيل.
لذلك يمكن وضع اغتيال حسن خدائي في خانة الحرب السرّية بين إيران وإسرائيل على خلفيّة التموضع الإيراني الكثيف في سوريا وإنشاء قواعد للحرس الثوري فيها، التي على أساسها قامت إسرائيل بشنّ مئات الهجمات الجويّة في سورية ضدّ تلك الأهداف، وأيضاً ردّاً على محاولات طهران تنفيذ عمليات في الخارج ضدّ أهداف إسرائيلية، وإرسال طائرات هجومية مسيّرة نحو إسرائيل من العراق، يُقال إنّ حسن خدائي مسؤول عنها.
وكما هو معروف، فإنّ تصفية خدائي تستوجب قدرة استخبارية استثنائية في الدولة الهدف: إيران. وتمرّ التصفية عبر سلسلة طويلة من الأذونات في داخل الموساد وجهاز الأمن والقيادة السياسية. كما أنّ للتوقيت وزناً أيضاً، وتؤخذ بالحسبان الظروف السياسية والإقليمية.
لكن يجب عدم الخلط بين القدرة على تشغيل مغتالين على درّاجة مثل أفلام جيمس بوند، وبين الموضوع الثاني المحبّب أكثر إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية، وهو خطة مهاجمة المنشآت النووية في إيران التي يقول عنها المحلّل العسكري عاموس هارئيل: “هذه الخطط، كما نُشر، تمّ إخراجها من الأدراج عند أداء حكومة بينيت للقسم. والمطّلعون على بواطن الأمور قالوا إنّه تبيّن أنّ غباراً كثيراً تجمّع حولها، ربّما مع خيوط العنكبوت في الزوايا”.
تحذيران غانتس: لقد اقتربوا
حتى المناورة الأركانية التي قام الجيش الإسرائيلي بالتدرّب عليها أخيراً، وتحاكي هجوماً جوّياً كبيراً على إيران، هي أشبه بنمر من ورق، لأنّ الجميع يدرك أن لا حكومة بينيت ولا أيّ حكومة مقبلة أو سابقة في إسرائيل، مستعدّة للمخاطرة في خصومة جوهرية مع الإدارة الأميركية. كما أنّ إسرائيل لا تملك القدرة التقنية والعملانية على مهاجمة المنشآت النووية بشكل يضمن خروجها من الخدمة. وكلّ التلميحات الإسرائيلية عن حرب وشيكة ضدّ المشروع النووي الإيراني هي تبجّح لتحقيق غايات سياسية، وتلبية لاحتياجات داخلية للتغطية على وهن حكومة بينيت، ولها بعد خارجي يستهدف إظهار وجود عمل عسكري إسرائيلي في السياق الإيراني، ربّما لإقناع الأميركيين بإبداء حزم أكبر في المفاوضات النووية.
ألقى وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس خطاباً في جامعة رايخمان في شمال إسرائيل، قبل سفره إلى الولايات المتحدة، حيث التقى شخصيات كبيرة في إدارة بايدن، وحرّض على إيران، التي قال إنّها تعمل على تطوير أجهزة طرد مركزي في مواقع جديدة تحت الأرض يجري بناؤها بالقرب من منشأة نطنز النووية. وأضاف أنّ “إيران تبذل جهداً لاستكمال تصنيع وتركيب ألف جهاز طرد مركزي متطوّر من نوع “آي آر 6″ في منشآتها النووية”.
وأشار غانتس إلى أنّ إيران “تقف على بعد أسابيع قليلة من تكديس الموادّ الانشطارية التي تكفي لصنع قنبلة أولى، إذ تمتلك 60 كيلوغراماً من الموادّ المخصّبة بنسبة 60%، وتُنتج اليورانيوم المعدني عند مستوى تخصيب تبلغ نسبته 20%، وتمنع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى منشآتها”.
كلّ من يلتقي غانتس يدرك أنّ تل أبيب محبطة من إدارة جو بايدن. فإدارة باراك أوباما وإدارة دونالد ترامب حافظت كلّ واحدة بطريقتها على شكل ظاهري من التهديد العسكري لإيران. لكنّ الإدارة الحالية لا تكلّف نفسها عناء القيام بذلك. صحيح أنّ مفاوضات فيينا عالقة، بسبب إصرار طهران على إخراج الحرس الثوري من القائمة السوداء، ورفض الإدارة الأميركية لذلك، لكنّ توقّعات تل أبيب تقول إنّ الاتفاق النووي شبه مبرم.
يتحدّث الآن محيط رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت عن نظرية “ألف قطعة صغيرة” تنفّذ إسرائيل في إطارها أعمالاً هجومية في إيران، وهي استمرار للأنباء عن هجمات سايبريّة إسرائيلية ضدّ محطات وقود في إيران وغيرها من الأعمال.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وعمر الـ74: هل تلحقها “لعنة الـ80″؟
يحذّر المسؤول الأمني جدعون ساعر من النشر الواسع للمسيّرات والصواريخ في المنطقة، برعاية إيران: “حيث إنّه في الماضي كانت القدرة على حمل 50 كيلوغراماً من المادّة المتفجّرة لمسافة 1,500 كيلومتر وضرب نقطة دقيقة في متناول القوى العظمى فقط. أمّا اليوم فباتت هذه القدرة متوافرة لدى مجموعات في لبنان وغزة واليمن والعراق، برعاية العرّابة طهران، وهي تقوم بهجمات كهذه كلّ أسبوع. نحن نتابع هذا ونخطّط له استخبارياً وعملياتياً”.
*كاتبة فلسطينية مقيمة في غزّة