في عام 1968 نشرت صحيفة أميركية تصدر في ولاية ميلوكي، وتحمل اسمها، مقالاً اقترحت فيه تغيير الرمز الوطني للولايات المتحدة من نسر إلى دجاجة.
جاء هذا الاقتراح الاستهزائي الساخر تعليقاً على موقف الرئيس ليندون جونسون من كوريا الشمالية.
في ذلك الوقت، أي قبل 50 سنة، استطاعت قوات كورية أسر سفينة تجسّس أميركية في المياه الكورية تدعى “بيبلو” مع كلّ طاقمها المؤلّف من 83 عسكرياً. كانت السفينة تقوم بالتجسّس على كوريا الشمالية، عندما فوجئت بهجوم انتهى بها إلى الأسر. وتعترف الإدارة الأميركية أنّه في شهر كانون الثاني من ذلك العام (1968) قامت الولايات المتحدة بأكثر من 800 عملية تجسّس واستطلاع على دول مختلفة. مع ذلك ارتفعت في الولايات المتحدة نداءات تطالب بالحرب لتأديب كوريا الشمالية. وأُعدّت بالفعل خطط في وزارة الدفاع لقصفها بالسلاح النووي. غير أنّه كانت للرئيس الأميركي ليندون جونسون حسابات أخرى. فالولايات المتحدة كانت غارقة في وحول الحرب الفيتنامية. وعلى الرغم من أنّ تلك الحرب أودت بحياة مئات الآلاف من الفيتناميّين، إلا أنّها استنزفت القوات الأميركية واستنزفت معنويّاتها. كذلك لم يكن قد مضى سوى وقت قصير على خروج الولايات المتحدة من الحرب الكورية، حيث فقدت الآلاف من أبنائها. وهي الحرب التي انفجرت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
كان الرأي العام الأميركي قلقاً على سمعة الولايات المتحدة في العالم. وكان الرئيس الأميركي قلقاً على مصير جنوده الأسرى الاثنين والثمانين ضابطاً وفنّيّاً وعسكرياً
من أجل ذلك أعلن الرئيس جونسون أنّ آخر ما يمكن أن يفكّر فيه هو الدخول في حرب ثانية في آسيا.
أدّى هذا الإعلان إلى اتّهام الرئيس بـ”الجبن”. وقامت مقالة صحيفة “ميلوكي” باقتراح تبديل شعار الولايات المتحدة من نسر إلى دجاجة.
هل اعتذرت أميركا؟
بدلاً من مغامرة الحرب، طلبت إدارة الرئيس جونسون فتح حوار دبلوماسي مع كوريا الشمالية لحلّ المشكلة لتجنّب المواجهة الحربية. إلا أنّ الكوريّين اشترطوا أوّلاً اعتذاراً علنيّاً من الولايات المتحدة، واعترافاً مباشراً بأنّ السفينة كانت في مهمّة تجسّسية. اعتبرت واشنطن الطلب الكوري الشمالي مهيناً لها، إلا أنّها كانت قلقة على حياة جنودها الأسرى الذين قتل واحد منهم فقط أثناء عملية أسر السفينة مع طاقمها.
استمرّت المفاوضات أحد عشر شهراً في المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريّتين الشمالية والجنوبية، لكن دون نتيجة. فالكوريون الشماليون أصرّوا على الاعتراف بالتجسّس والاعتذار. أمّا الأميركيون فعرضوا كلّ شيء إلا الاعتذار لأنّهم وجدوا فيه إهانة معنوية كبيرة.
خلال هذه المفاوضات أعدّ البنتاغون (وزارة الدفاع) خطة لقصف مطارات كوريا الشمالية بقاذفات “ب 52” على مدار الساعة لتدمير كلّ سلاحها الجوي الذي كان يتألّف في ذلك الوقت من 500 طائرة موزّعة في عدد من المطارات والمخابئ.
كذلك أعدّ البنتاغون خطة طارئة لقصف مدن كوريا الشمالية بالقنابل النووية. وبالفعل أبحرت إلى المياه الإقليمية في كوريا الجنوبية واليابان حاملة الطائرات الأميركية “إنتربرايز” ترافقها 25 سفينة حربية أخرى مع 350 طائرة مقاتلة استعداداً لساعة الصفر.
كان الرأي العام الأميركي قلقاً على سمعة الولايات المتحدة في العالم. وكان الرئيس الأميركي قلقاً على مصير جنوده الأسرى الاثنين والثمانين ضابطاً وفنّيّاً وعسكرياً. وكان أشدّ ما يكون القلق هو استدراج الولايات المتحدة إلى حرب جديدة.. أو إلى استخدام السلاح النووي. لذلك بقي التهديد العسكري كلاميّاً وجزءاً من حملة ضغط معنوية. وتركّز الاهتمام على المباحثات السياسية، التي كانت تدور في حلقة مفرغة. لكن بعد مرور عدّة أشهر من هذا الدوران في الفراغ، اقترحت زوجة أحد الدبلوماسيّين الأميركيّين في الوفد المفاوض على زوجها اقتراحاً حمله في اليوم التالي إلى طاولة المفاوضات. يقول الاقتراح ما يلي:
1- توقّع الولايات المتحدة على بيان الاعتذار.
2- ثمّ تعلن بالاتفاق مع كوريا الشمالية أنّ التوقيع ليس صحيحاً وأنّه توقيع مزوّر.
الغريب أنّ كوريا الشمالية وافقت على الاقتراح. وتمّت الصفقة التي أُطلق بموجبها سراح الأسرى الأميركيين عشيّة عيد الميلاد من عام 1968.. ونجت “بيونغ يانغ” من أن تصبح هيروشيما الثانية.. ونجت معها كوريا الجنوبية واليابان من ردّ الفعل الكوري الشمالي الانتقاميّ.
كان ذلك قبل أكثر من 50 عاماً. اليوم أصبحت كوريا الشمالية أقوى عسكرياً، صاروخياً ونووياً، وبالتالي يمكن أن يكون ردّ فعلها أشدّ تدميراً ليس للجنوب الكوري والشمال الياباني فقط، إنّما للولايات المتحدة أيضاً. فقد أصبحت تنتج صواريخ عابرة للقارات.
إقرأ أيضاً: النازيّة في الحرب الأوكرانيّة
لقد استدرجت كوريا الشمالية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى الاعتراف بها على مستوى الندّيّة من دون أن تستجيب في الحسابات الأخيرة لأيٍّ من مطالبه المتواضعة. وهي اليوم تضرب عرض الحائط بالتهديدات التي يطلقها الرئيس جو بايدن، الأمر الذي يفرض أمراً واقعاً جديداً في الصراع حول توازن القوى في شرق آسيا.