في ظلّ التعقيدات التي تواجه التوصّل إلى صفقة أميركية – إيرانية في شأن البرنامج النووي الإيراني، عاد الكلام عن أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية تتّجه إلى اعتماد الخيار الكوري الشمالي. ملخّص هذا الخيار أنّ نظاماً قمعيّاً مرفوضاً من شعبه يستطيع الاحتماء خلف السلاح النووي من أجل ضمان بقائه. ما يمكن أن يزيد القناعة الإيرانيّة بالخيار الكوري الشماليّ أنّ فلاديمير بوتين اجتاح أوكرانيا ولم تجرؤ الدول الحليفة لها على إرسال قوات لنجدة جيشها وشعبها بسبب امتلاك روسيا السلاح النووي ولا شيء آخر غير ذلك. ما زالت إيران في حاجة إلى الوقت كي تفرض واقعاً جديداً يتمثّل في امتلاك السلاح النووي. هل مسموح لها بذلك؟
من هذا المنطلق، يمكن فهم التأخير في العودة إلى التفاوض في شأن الملفّ النووي على الرغم من الرغبة الأميركية في ذلك. يُعتبر “الحرس الثوري” أولويّة لدى النظام الإيراني. يبدو مطلوباً وجود الخيار النووي على الطاولة من أجل حماية “الحرس الثوري” أوّلاً. وهذا ما يفسّر الإصرار الإيراني على رفع “الحرس الثوري” عن لائحة الإرهاب الأميركيّة.
في ظلّ التعقيدات التي تواجه التوصّل إلى صفقة أميركية – إيرانية في شأن البرنامج النووي الإيراني، عاد الكلام عن أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية تتّجه إلى اعتماد الخيار الكوري الشمالي
قدّمت إدارة جو بايدن كلّ التسهيلات المطلوبة من أجل العودة بطريقة أو بأخرى إلى الاتفاق الذي وقّعته إيران صيف العام 2015 مع مجموعة الـ5+1. صحيح أنّ الإدارة الأميركيّة مصرّة على بعض التعديلات على نصّ الاتّفاق الذي مزّقه دونالد ترامب في أيّار 2018، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ مجرّد إصرار “الجمهوريّة الإسلاميّة” على التمسّك بشروطها دليل على أنّها مهتمّة قبل كلّ شيء بكسب الوقت.
إلى أيّ حدّ ستذهب إيران في خيارها الذي تحاول فرضه على المنطقة والعالم؟ من الواضح أن لا حدود لِما يمكن أن تذهب إليه مستعينة بأوراقها الإقليميّة. تستعين إيران بالعراق ولبنان واليمن وسوريا حيث أوجدت واقعاً جديداً على الأرض يتمثّل في تغيير التركيبة السكانيّة لـ”الجمهوريّة العربيّة السوريّة”، من منطلق مذهبي.
تصعّد إيران في كلّ الاتّجاهات وتعمل في الوقت ذاته على الاستحواذ على السلاح النووي. سيكون السؤال الذي سيطرح نفسه يوميّاً في المرحلة المقبلة مرتبطاً بأفق السياسة الإيرانية التي لم تؤدِّ إلى اليوم إلّا إلى تفريغ البلد من أفضل الناس فيه. الإيرانيون من أصحاب الكفاءات والفكر المنفتح هاجروا من إيران بعد رفضهم العيش في ظلّ النظام الذي أسّس له آية الله الخميني الذي فرض نظريّة “الوليّ الفقيه” التي تجعل من “المرشد” صاحب كلّ السلطات في البلد والقائد المعصوم. تحوّلت نظريّة “الوليّ الفقيه” إلى غطاء لسيطرة “الحرس الثوري” على إيران.
لا أفق للسياسة الإيرانية، لا في إيران نفسها ولا في المنطقة. لا يستطيع السلاح النووي، الذي يُفترض أن يحمي “الحرس الثوري” يوماً، إيجاد أفق جديد يكون بديلاً من اقتصاد قابل للحياة. كلّ ما في الأمر أنّ هناك نظاماً يعتقد أنّ تصدير أزماته إلى خارج حدوده، عن طريق ميليشياته المذهبيّة، من نوع “حزب الله” في لبنان، يضمن بقاءه في السلطة… بحماية القنبلة النووية.
في حال بقي الضياع متحكّماً بالإدارة الأميركية، ليس مستبعداً أن تشهد المنطقة مزيداً من الخراب والدمار والبؤس في ظلّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” النوويّة
نجح النظام الإيراني في البقاء حيّاً منذ العام 1979 بمساعدة أميركيّة. بلغت هذه المساعدة ذروتها في عهد جورج بوش الابن الذي سلّم العراق إلى إيران على صحن من فضّة في العام 2003. أعطت إدارة بوش الابن دفعاً للمشروع التوسّعي الإيراني انطلاقاً من العراق الذي صمد في الحرب الطويلة التي استمرّت بين 1980 و1988، وهي حرب كلّفت المنطقة الكثير.
لا يوجد في واشنطن في الوقت الراهن من يدرك خطورة المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة، خصوصاً إذا صارت هناك قنبلة نوويّة تحميه. هناك إدارة ترفض الاعتراف بأنّ أخطر ما حصل منذ العام 2015، لدى توقيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” ومجموعة البلدان الـ5+1، يتمثّل في تطوير إيران للروح العدائية لمحيطها المباشر وغير المباشر من جهة، وتطوير ترسانتها من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيَّرة من جهة أخرى.
في حال بقي الضياع متحكّماً بالإدارة الأميركية، ليس مستبعداً أن تشهد المنطقة مزيداً من الخراب والدمار والبؤس في ظلّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” النوويّة. هنا، سيكون مطروحاً بإلحاح: هل يمكن لأميركا وإسرائيل السماح بذلك؟
ما الذي تريده الإدارة الأميركية التي تبدو مستعدّة للذهاب في مسايرة إيران إلى أبعد حدود من منطلق أنّ لديها هموماً أخرى، من بينها الوضع الداخلي والتحدّي الذي تمثّله الصين والحرب الأوكرانيّة؟
ثمّة ما يدعو إلى القلق الشديد في ضوء انسحاب أميركا من أفغانستان بالطريقة التي انسحبت بها غير آبهة بمصير المواطنين الأفغان الذين أعادتهم “طالبان” إلى العيش في ظلّ نظام لا علاقة له من قريب أو بعيد بأيّ قيم حضاريّة في هذا العالم. يبدو مصير المواطن الأفغاني آخر همّ لدى الإدارة الأميركيّة. ما ينطبق على المواطن الأفغاني ينطبق أيضاً على المواطن الإيراني نفسه وعلى المواطن العراقي والسوري واللبناني… واليمني الذي يعيش في ظلّ ما يفرضه الحوثيون من قيم بالية وبائسة على مساحة واسعة من اليمن، بما في ذلك مدينة ذات تاريخ عريق اسمها صنعاء!
يبقى أنّ الخيار الكوري الشمالي ليس خياراً قابلاً للحياة في المستقبل البعيد المدى. هذا عائد إلى أسباب عدّة. الأوّل أنّ حصول إيران على السلاح النووي سيعني دخول المنطقة سباقاً في هذا المجال. ماذا ستفعل تركيا؟ ماذا ستفعل مصر؟ ماذا ستفعل المملكة العربيّة السعوديّة؟ ماذا ستفعل دول أخرى ستشعر بمزيد من التهديد الإيراني؟
إقرأ أيضاً: تصعيد روسيّ وأميركيّ… وإيرانيّ
أمّا السبب الثاني فهو عائد إلى أنّ إيران مختلفة عن كوريا الشماليّة التي احتمت خلف السلاح النووي والصواريخ لحماية نظامها. ليس لديها ميليشيات تابعة لها خارج حدودها كما حال “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
أمّا السبب الثالث فهو كامن في أنّ القنبلة النوويّة لا تبني اقتصاداً. لو كانت القنبلة النووية والصواريخ، بكلّ أنواعها، تبني مثل هذا الاقتصاد المتطوّر، لَما انهار الاتحاد السوفياتي.
هل في طهران مَن يريد أن يتعلّم من تجارب الآخرين ومن أنّ “الحرس الثوري” كارثة على إيران نفسها وعلى شعبها الحيّ وعلى المنطقة كلّها؟