توجد في شرق بحر الصين مجموعة من الجزر الصخرية غير المأهولة. تطلق الصين عليها اسم “دياو يو داو”، وتطلق اليابان عليها اسم “سينكا كو”. ليست المشكلة في اختلاف الاسمين، بل تكمن في ادّعاء كلّ منهما السيادة عليها.
لم تعرف الدولتان الكبيرتان حسن الجوار طوال القرن العشرين حتى اليوم، غير أنّهما اليوم، وربّما للمرّة الأولى، تجدان أنّهما تتقاربان في مواجهة التطوّرات الجديدة التي تعصف بمنطقة شرق آسيا.
أصبحت الصين تتمتّع بقدر عالٍ من الثقة بالنفس بعد التقدّم الاقتصادي الذي حقّقته، بحيث إنّها باتت تشعر الآن أنّ إقامة علاقات حسن جوار مع اليابان أصبحت في مصلحتها أيضاً
– التطوّر الأوّل هو عدم الاطمئنان الصيني والياباني إلى السياسة الأميركية المتقلّبة. ولذلك وجدت كلّ من طوكيو وبكين أنّ لهما مصلحة في البحث عن قارب نجاة يمكن اللجوء إليه إذا ما وجدت أيٌّ منهما أنّها محرجة بقرار أميركي غير متوقّع.
– التطوّر الثاني هو بروز الأنياب النووية لكوريا الشمالية. وهو خطر يتهدّد اليابان في الدرجة الأولى. إلا أنّ الصين، وعلى الرغم من مساعداتها الاقتصادية لبيونغ يانغ، إلا أنّها تدرك جيّداً أنّها لن تنجو من المضاعفات المدمّرة لأيّ اصطدام بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، خاصة بعدما تعثّرت كلّ المبادرات التقريبية التي جرت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
من هنا يشكّل الشعور بخطر السلاح النووي الكوريّ الشماليّ في كلّ من طوكيو وبكين قوّة دفع قويّة نحو تفاهمهما لمواجهة هذا الخطر المشترك معاً.
– أمّا التطوّر الثالث فهو خشية اليابان من أن تذهب الولايات المتحدة بعيداً في تحالفها السياسي وفي تعاملها الاقتصادي مع الصين على حساب المصالح اليابانية في المنطقة. وهي تجد في التعاون مع الصين صمام أمان للمحافظة على هذه المصالح، ولو في حدّها الأدنى.
إلا أنّ هذه المخاوف اليابانية تراجعت بعدما تضخّمت المخاوف الأميركية من تعاظم القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، فتزايدت الحاجة إلى تعاون أميركي – ياباني للمواجهة المحتملة.
مبادرة الصين وحسن النيّة
أوقفت الصين، التي تتمسّك بسيادتها على الجزر المختلَف عليها مع اليابان، هذا العام، وللمرّة الأولى، عمليات الصيد التي كانت تقوم بها على نطاق واسع في المياه الإقليمية للجزر، وهي إشارة فهمتها اليابان على أنّها مبادرة حسن نيّة، لكنّها لا تكفي لاستعادة الثقة.
في الواقع أصبحت الصين تتمتّع بقدر عالٍ من الثقة بالنفس بعد التقدّم الاقتصادي الذي حقّقته، بحيث إنّها باتت تشعر الآن أنّ إقامة علاقات حسن جوار مع اليابان أصبحت في مصلحتها أيضاً.
ارتفاع حدّة الصراع الأميركي – الصيني أدّى إلى استعادة العلاقات الأميركية – اليابانية حرارتها من جديد لمواجهة احتمال تعاون صيني – روسي بعد الحرب الأوكرانية
الأمر الأساسي بالنسبة إلى الصين هو أن لا تدفع طوكيو بضغط مخاوفها إلى أن تتحوّل إلى قوة عسكرية ثالثة في شرق آسيا إلى جانب بكين وواشنطن. فالمشروع الصيني في المنطقة هو أن تتبوّأ الصين المركز العسكري الأول (حتّى على حساب الولايات المتحدة) في غرب المحيط الهادئ.
بعد المؤتمر الذي عقدته دول المنطقة في فيتنام، لم يترك الرئيس الصيني “شي جين بينغ” فرصة إلا واستغلّها بحرفيّة عالية ليثبت للرئيس الياباني أنّ عليه أن يتكيّف مع هذا الوضع الجديد إذا كان حريصاً بالفعل على فتح صفحة جديدة مع الصين. وعنوان هذا الوضع الجديد هو “الصين أوّلاً” في شرق آسيا.
حاول رئيس الوزراء الياباني السابق شنزو آبي ترميم علاقات بلاده مع الصين، لكن من دون جدوى. ومن مبادراته الانفتاحية أن أرسل وفداً يابانياً عالي المستوى إلى بكين للمشاركة في الاحتفال الذي أقامه الرئيس الصيني “بينغ” لإطلاق مشروعه الاستراتيجي الطموح “حزام واحد – طريق واحد”، الذي يعكس مدى الطموحات المعنوية للصين في آسيا وأوروبا وحتى في الشرق الأوسط وإفريقيا.
في عام 2008، قام الرئيس الصيني “هيو جينتاو” بزيارة رسمية تاريخية لطوكيو، واتّفق مع رئيس الحكومة اليابانية في ذلك الوقت “ياسو فوكودا” على “التعاون لإقامة علاقات سلام وصداقة بين الدولتين”. لكنّ هذا التعهّد المشترك لم يعِش سوى عامين فقط. إذ سقط بعد إعلان الصين السيادة على الجزر الصخرية المتنازع عليها، الأمر الذي أدّى إلى عودة العلاقات بينهما مرّة جديدة إلى نقطة الصفر.
إقرأ أيضاً: الحبّ المفقود بين الصين وأميركا
سابقاً، كانت هناك حسابات سياسية في أن يدفع القلق الصيني – الياباني المشترك من تقلّبات السياسة الأميركية في شرق آسيا إلى إخراج علاقاتهما من عنق الزجاجة. لكنّ ارتفاع حدّة الصراع الأميركي – الصيني أدّى إلى استعادة العلاقات الأميركية – اليابانية حرارتها من جديد لمواجهة احتمال تعاون صيني – روسي بعد الحرب الأوكرانية.
تضع هذه المتغيّرات شرق آسيا على كفّ عفريت مرّة أخرى، وهو ما يفتح الأبواب أمام احتمالات تُعيد خربطة التحالفات في شرق آسيا.