بدت الرسالة السياسية، التى أطلقها «يوسف ندا» مفوض السياسة الخارجية السابق للتنظيم الدولى لـ”الإخوان المسلمين”، مثيرة بتوقيتها وسياقها للتساؤل عما يريده بالضبط من طلب الحوار مع “رأس السلطة فى مصر”!
هو رجل اكتسب أدواره وأوزانه فى كواليس الاستخبارات الدولية المعتمة، يعتبر نفسه رائد البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، اتهمه الرئيس الأمريكى الأسبق “جورج دبليو بوش” عام (2001) بأنه أحد ممولى الإرهاب الدولى، جرت تحقيقات فى التهم المنسوبة إليه، وجرت حمايته بصورة أو أخرى.
يؤيد من يعرفون بـ”إخوان لندن”، الذين يترأسهم “إبراهيم منير” القائم بأعمال مرشد الجماعة مع من يطلق عليهم “إخوان استنبول”، الذين يتزعمهم “محمود حسين” أمين عام الجماعة السابق.
المعنى ــ هنا ــ أنه يتحدث باسم “إخوان لندن”، أو بالتنسيق الكامل معهم، وربما يكون قد جرى استطلاع رأى قيادات الجماعة من خلف قضبان السجون.
تنبئ رسالة “الرجل الغامض”، حسبما يوصف فى وسائل الإعلام العربية والدولية، فى توقيتها وسياقها عن محاولة لتدارك أوضاع الانقسام الفادح فى بنية الجماعة خشية غيابها النهائى عن المشهد المصرى فى ظل تراجع الغطاء الإقليمى، الذى وفر لها بأوقات سابقة أموالا مفتوحة وملاذات آمنة، كما روح اليأس التى نالت من قواعدها بأثر الفضائح المالية التى تشبه قصص “المافيا الإيطالية” بين جبهتي “لندن” و”استنبول”.
أزمة “الإخوان” مع المجتمع ومؤسسات القوة فيه وعبورها ليس ممكنا بأى مدى منظور، أو متوسط
قد يوحى نص الرسالة بأننا أمام تحول فى نظرة الجماعة إلى نظام الحكم الحالى، أو طلبا للمشاركة فى الحوار الوطنى، الذى دعا إليه الرئيس “عبدالفتاح السيسى” “دون استثناء أو تمييز”، فى إفطار العائلة المصرية لمواجهة أخطار وتحديات المرحلة المقبلة.
وقد توحى بمحاولة استبيان حدود ما قصده الرئيس المصرى فى مراجعاته لما جرى قبل (30) يونيو، وإذا ما كانت تنطوى على فرصة ما تفسح المجال لفتح صفحة جديدة تعيد دمج الجماعة فى الحياة السياسية المصرية.
“سأظل أقول إن بابنا مفتوح للحوار والصفح بعد رد المظالم”.
كانت صياغة “ندا” مقصودة بالتباساتها، نصفها الأول يخاطب السلطة بحديث “الباب المفتوح”، ونصفها الثانى يخاطب قواعد الجماعة بحديث “الصفح بعد رد المظالم”.
“رد المظالم” قيمة إنسانية مطلقة بقدر ما تكون حقيقية لا مدعاة، فيما “الصفح” يفترض أن يكون صاحبه فى موقع قوة!
لا يتوقع أحد أى رد على رسالة “يوسف ندا”، ولا أن توجه أية دعوة لممثلين عن الجماعة للانخراط فى الحوار الوطنى المزمع.
أزمة “الإخوان” مع المجتمع ومؤسسات القوة فيه وعبورها ليس ممكنا بأى مدى منظور، أو متوسط.
الإفراج عن غير المتورطين فى الدم حق إنسانى وقانونى وإعادة دمجهم فى حركة المجتمع كمواطنين توجه لا يصح الممانعة فيه، أو الاعتراض عليه.
ذلك التوجه يستدعى مقاربات جديدة، أكثر عدلا وإنسانيا واحتراما لحقوق المواطنين السلميين طالما لم يتورطوا فى عنف أو إرهاب.
عودة الجماعة قضية مختلفة تماما.
بقوة الحقائق الماثلة فإن الحوار غير ممكن والصفقات مستحيلة.
لم تكن تلك المرة الأولى، التى يطلب فيها “ندا” باسم الجماعة الحوار مع نظام الحكم، فقد أطلق دعوة مماثلة إثر إطلاق ما سُمِّيَت بـ”الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” قبل عشرة أشهر.
فى المرتين لم يكن يطلب حوارا بالمعنى المتعارف عليه بقدر ما كان يبحث عن صفقة ما تعيد الجماعة بصورة أو أخرى إلى المشهد السياسى المصرى.
للحوار أصول ومقتضيات ومراجعات للأخطاء والخطايا التى ارتكبت فيما الصفقة مسألة تبادل للمنافع والأدوار أيا كانت درجة خطورتها.
الجماعة لا تحاور، ولا تلتزم وعودها، بل تعقد الصفقات على حساب أية قيمة، كالتى أعقبت عودتها مطلع سبعينيات القرن الماضى لضرب القوى الناصرية واليسارية فى الجامعات المصرية، التى كانت تمثل صداعا سياسيا للرئيس الأسبق “أنور السادات”.
أو مثل التى جرت فى الانتخابات النيابية عام (2005)، التى مكنتها من حيازة (88) مقعدا مقابل تفاهمات مع نظام “مبارك” أحجمت بمقتضاها عن خوض الانتخابات بقائمة مشتركة مع الجبهة الوطنية، التى كان يترأسها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور “عزيز صدقى”.
كانت مشكلة نظام “مبارك” أنه لم يحاول إصلاح بنية النظام من داخله وإرساء قواعد دولة مدنية حديثة فأفسح المجال لاستيلاء الجماعة على الحكم كله
فى ربيع (2008) جرت اتصالات فى سويسرا بين “حسين سالم”، الذى كان يوصف بأنه “الصديق الأقرب للرئيس المصرى فى ذلك الوقت “حسنى مبارك”، مع “يوسف ندا” “الإخوانى” العتيد، استهدفت باعتراف “ندا” نفسه فى حوار صحفى منشور بـ”المصرى اليوم”، دعم صعود “جمال مبارك” وتصحيح العلاقة بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين.
الاثنان “سالم” و”ندا” عملا ــ معا ــ فى كثير من الصفقات الدولية، وهما صديقان شخصيان على صلة وثيقة.
المفارقة لم تكن قابلة للتصديق للوهلة الأولى، لكنها علاقات المصالح والبيزنس والصفقات التى تجب أية اعتبارات أخرى.
كلا الرجلين مثير للتساؤلات حول مصادر ثروتهما المليارية، فالأول كان يعمل فى تجارة البترول والغاز والسلاح، تربطه صلات قديمة ببعض الجهات الحساسة منذ أن كان موظفا صغيرا فى السفارة المصرية بـ”العراق” أيام السفير امين هويدي.
والثانى كون ثروته من إدارة أموال الإخوان المسلمين فى الخارج، يتهمه خصومه بأنه على صلات قوية ببعض الأجهزة الاستخباراتية الغربية، التى حمته كالعادة من مغبة التحقيقات القضائية بشأن دوره فى إفلاس “بنك التقوى”، الذى كان يترأس مجلس إدارته، وضياع أموال المودعين فيه.
لم تكن الصفقة بين الوريث المحتمل والجماعة كل أهداف «ندا»، فقد كان يريدها مدخلا لإغلاق ملفه القضائى فى مصر، فهو محكوم عليه غيابيا بعشر سنوات فى قضية «خيرت الشاطر وإخوانه» قبل أن يتم إغلاقها فى فترة حكم «المجلس العسكرى» أعقاب ثورة “يناير” مباشرة.
كانت مشكلة نظام “مبارك” أنه لم يحاول إصلاح بنية النظام من داخله وإرساء قواعد دولة مدنية حديثة فأفسح المجال لاستيلاء الجماعة على الحكم كله.
إقرأ أيضاً: بقايا إرهاب.. سيناء تنتقل من السياسة إلى الاقتصاد
عند سقوط نظامه لم تكن هناك أحزابا وقوى مدنية مهيئة لكسب الانتخابات التى تلت “يناير”.
كان لغياب القواعد الدستورية الملزمة، بالإضافة إلى الإضعاف المنهجى للمجتمع السياسى المدنى، تأثيره الفادح على إطلاق أشباح العنف والصدام وتزكية أكثر الأفكار تشددا داخل الجماعة السرية.
لم يكن الحجم الذى أخذته الجماعة بعد «يناير» تعبيرا عن قوتها بقدر ما كان انعكاسا لضعف الآخرين.
هذا ما لا يصح أن يتكرر مرة أخرى.
*كاتب مصري – نقلاً عن الشروق المصرية