قبل أيّام صُدِم المصريّون بحادث إرهابي بغيض، وقعَ في غرب سيناء أمام محطّة لرفع المياه. لم تكن هناك تشكيلات أمنيّة استثنائية في المكان، بل كانت قوّة حراسة المحطّة، التي فوجئت بالهجوم الغادر. دافعت القوة عن المحطة، واستشهد ضابط وعشرة جنود من الأبطال.
أعلن تنظيم داعش تبنّي الهجوم، وأدان العالم الحادث الإرهابي الأليم، وفي اليوم التالي رأس الرئيس عبد الفتاح السيسي اجتماعاً للمجلس الأعلى للقوات المسلّحة.
أبدتْ القيادة المصرية صلابة وعزيمة في استمرار اقتلاع جذور الإرهاب، وتجاوز الاجتماع الحادث الإرهابي إلى مناقشة مستقبل الأمن القومي المصري من جميع الاتّجاهات الاستراتيجيّة، ومهامّ الجيش في مواجهة التحدّيات.
لقد جاء حادث محطة رفع المياه غرب سيناء تلخيصاً لصراع طريقَيْن متناقضَيْن: أولئك الذين يُقدِّمون الدماء، وأولئك الذين يحرسون المياه.. صناعة الموت وصناعة الحياة.
قبل أيّام صُدِم المصريّون بحادث إرهابي بغيض، وقعَ في غرب سيناء أمام محطّة لرفع المياه. لم تكن هناك تشكيلات أمنيّة استثنائية في المكان، بل كانت قوّة حراسة المحطّة، التي فوجئت بالهجوم الغادر
خريف داعش
لم يكن حادث غرب سيناء سوى عمل إعلاميّ لمحاولة إثبات الوجود والقدرة على الفعل. لكنّ حقائق الأمور تقول عكس ذلك. فلقد انهار تنظيم داعش في سيناء تماماً، وأصبحت شبه الجزيرة المصرية تحت السيطرة، وباتت الدولة تتعامل بثقة كبيرة، متجاوزةً المخاوف الأمنيّة إلى الخطط التنموية.
وهنا يمكننا طرح النقاط التالية:
1- على مدى أكثر من عام لم يقع حادث إرهابيّ واحد في سيناء ولا في مصر كلّها، بعدما كانت العمليات الإرهابية قد تزايدت في سنوات سابقة. وطبقاً لمؤشّر الإرهاب العالمي فإنّ عدد الحوادث الإرهابية في العام الفائت ساوى صفراً.
2- شهدت منطقة رفح – الشيخ زويد – العريش نجاحاً كبيراً في تفكيك البنية التحتيّة للإرهاب، وتدمير الهياكل التنظيمية لها. ومنذ انطلاق “العملية الشاملة” في سيناء 2018، تساقطت معاقل الإرهاب واحداً وراء الآخر.
3- نجحت مصر في قطع الطريق بين عناصر “السلفيّة الجهادية” في غزّة وبين سيناء. وفي شهر آذار 2022 قتلت القوات المصرية ثلاثة دواعش جنوب رفح، كان من بينهم مصعب مطاوع ابن شقيقة يحيى السنوار قائد حركة حماس في غزة، الذي انشقّ عن حركة حماس وانضمّ إلى تنظيم داعش قبل عامين.
في نيسان 2022 قُتِل قائد عسكري خطير في تنظيم داعش يُدعى شعبان أبو دراع.
4- لم تستطع الجماعات الإرهابية تنفيذ أيّة عملية طوال شهر رمضان وأيام عيد الفطر المبارك، نظراً إلى التعبئة الأمنيّة القويّة. لذلك اختارت فترة ما بعد العيد، واختارت أيضاً هدفاً سهلاً يتمثّل في محطة مياه. وهو ما يؤكّد عدم قدرة الإرهاب على المواجهة، وأنّ أقصى المستطاع هو عمليات دعائيّة يتمّ استثمارها سياسيّاً من جهات خارجية.
أبو دعاء وخطّ الغاز العربيّ
ثمّة فارق جوهري بين تنظيمَيْ القاعدة وداعش، ذلك أنّ تنظيم داعش يعمل على السيطرة الدائمة على مساحة جغرافية، ثمّ إقامة نظامه، ورفع علَمه، وتكسير الدولة الوطنية. أمّا تنظيم القاعدة فإنّه يعتمد آليّة شنّ هجمات في كلّ مكان من دون السيطرة الجغرافيّة على أيّ مكان.
وعلى ذلك فإنّ تحوُّل التنظيم الإرهابي من السيطرة الجغرافيّة إلى العمليات الإرهابية، وتحوُّله من “داعش” إلى “القاعدة”، يُعدّان فشلاً ذريعاً للتنظيم.
أُسِّس تنظيم القاعدة في سيناء بعد ثورة 2011، ثمّ زادت عمليات التنظيم في أعقاب سقوط حكم الإخوان عام 2013. ومنذ عام 2011 حتى عام 2013 تركّزت معظم العمليّات الإرهابية على استهداف خطّ أنابيب الغاز. وبعد سقوط الإخوان راح التنظيم يعمل على مهاجمة الجيش والشرطة والمجتمع ككلّ.
في عام 2014 بايعت القاعدة داعش، إذ أعلن إرهابيّو تنظيم بيت المقدس مبايعة أبي بكر البغدادي، وتحويل اسمهم إلى “ولاية سيناء”.
حاول تنظيم داعش-“ولاية سيناء” أن يسيطر على أيّة مساحة جغرافية في الشيخ زويد شمال سيناء لإعلان ولايته المزعومة. وكان أن سحقت الدولة المصرية التنظيم، فلم يعُد لتلك المحاولة مرّة أخرى. ثمّ توالت الضربات الأمنيّة للتنظيم الإرهابي، وفي شهر آب 2016 اعترف التنظيم بمقتل زعيمه أبي دعاء الأنصاري.
كان أبو دعاء، واسمه محمد مسلم أحميد فريج زيادة، حلقة وصل بين داعش-سيناء وداعش-ليبيا، وكان المُخطِّط لجريمة إسقاط الطائرة الروسيّة في سيناء.
في عام 2022 واجه التنظيم ضربات أقوى، فقُتِل قائد الجناح العسكري أبو عبيدة الأنصاري، واسمه عبد الواحد عضمة، وكان مقتله قبل حادث غرب سيناء بوقت قصير. وقد قام تنظيم داعش بنعي أبي عبيدة في مجلّة النبأ، التي يصدرها التنظيم.
محاولات اغتيال السيسي
في القضية التي جمعت 292 داعشيّاً متّهماً بالإرهاب، واجهت النيابة العسكرية المتهمين بـ17 واقعة، منها محاولة إعلان إمارة الشيخ زويد الإسلامية، ومحاولتان لاغتيال الرئيس السيسي، إحداهما في القاهرة والأخرى في مكّة المكرّمة.
يربط البعض حادث غرب سيناء بمسلسل “الاختيار”، وحديث الرئيس السيسي عن الاتجاه لإعلان سيناء خالية من الإرهاب، ويربطه البعض الآخر بمحاولة التأثير على خطّ الغاز العربي، وعلى مشروعات الغاز المصرية في إطار منتدى غاز شرق المتوسّط. ويحاول بعض الإثيوبيّين استغلال الحادث للتحدّث حديثاً غير مسؤول عن إدارة دوليّة لقناة السويس. ويربط آخرون الحادث بمحاولات الاستقلال المصري عن الولايات المتحدة في الموقف من الحرب في أوكرانيا. ويرى البعض الآخر أنّ هدف الحادث استثمار التحدّيات الاقتصادية في إرباك الجبهة الداخلية.
إنّ كلّ هذه التحليلات لها وجاهتها، ولذا كان بيان اجتماع الرئيس بالمجلس الأعلى للقوات المسلّحة واضحاً بشأن مواجهة مجمل تحدّيات الأمن القومي.
إقرأ أيضاً: مصر والعروبة العميقة (3/3): تحتمس الثالث.. وراية العرب
ربّما لا يدرك مَن يقومون بالاستخدام السياسي للإرهاب أنّه لا يمكن تحطيم الإرادة المصرية، وأنّه على الرغم من وجود بقايا إرهاب، فإنّ الحياة باتت طبيعية في شبه جزيرة سيناء. وحين قطعتُ الطريق من شرق قناة السويس وصولاً إلى شمال سيناء، تجوّلتُ في محيط جامعة العريش، والتقيتُ عشرات الشباب من طلّاب وطالبات الجامعة، كانت الروح المعنويّة عالية جدّاً، وكانت الثقة بالمستقبل بلا حدود.
لقد تجاوزتْ مصر أحداث سيناء إلى تنمية سيناء. تجاوزت السياسة إلى الاقتصاد، وتجاوزت مصانع اليأس إلى صناعة الأمل.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.