الحرب الإلكترونية… أسرع من “النووية”؟

مدة القراءة 5 د

في عام 2008 تمكّن شاب بولوني في سنّ المراهقة من دخول الشبكة الإلكترونية للسكك الحديدية في العاصمة وارسو. أدّى ذلك إلى إخراج قطارين عن السكّة. وفي العام نفسه، تمكّن شاب أميركي من دخول شبكة مطار ماتسوشيستش شمال نيويورك، فأوقف حركة الطيران لعدّة ساعات إقلاعاً وهبوطاً.

فإذا كان أمن الاتصالات في الجوّ وعلى الأرض تحت رحمة عبث المراهقين، فما هي قدرات المحترفين على التعطيل والتخريب في مجتمعات العالم التي يزداد اعتمادها على التنظيمات الإلكترونية يوماً بعد يوم؟

دخل المعجم السياسي مصطلحٌ جديدٌ هو “الحرب الإلكترونية”. وكانت أوّل ممارسة لهذه الحرب قد جرت في عام 2007. وكانت إيران مسرحاً وضحيّةً لها. في ذلك العام فوجئ العلماء الإيرانيون في مفاعل “ناتانز” بتشغيل مولّدات، وبتوقّف مولّدات أخرى من دون علمهم. أدّى ذلك إلى خلل واضطراب في تشغيل المفاعل النووي. وأدّى أيضاً إلى تعطيل أجهزة وتبديد كميّات من اليورانيوم. لم يطُل البحث حتى اكتُشِف السبب. لقد أنتجت إسرائيل برنامجاً إلكترونياً تخريبياً تسلّل إلى الشبكة الإيرانية وعاث في مفاعل “ناتانز” تخريباً. ولمّا اكتشف العلماء الإيرانيون الأمر اضطرّت إسرائيل إلى الاعتراف بالأمر.

تنفق الدول المليارات من الدولارات على إعداد العلماء والمهندسين، وعلى بناء المنشآت النووية وتخصيب اليورانيوم، إلا أنّ كلّ ذلك يمكن أن يذهب سدى بحركة إصبع عبر الشبكة الإلكترونية

ما كان لإيران أن تتمكّن من ذلك لو لم تكتشف المعادلة التي يقوم عليها البرنامج الإلكتروني الإسرائيلي. والواقع أنّ اكتشاف هذه المعادلة حدث بالصدفة. وحدث في بيلاروسيا أو روسيا البيضاء، وليس في إيران، ونُقل إلى طهران عبر موسكو. وقد ساعد على هذا الاكتشاف سلسلة أخطاء ارتكبها مشغّلو البرنامج في إسرائيل.

حدث ذلك في شهر حزيران من عام 2010 عندما توصّلت مؤسسة إلكترونية في بيلاروسيا مهمّتها تعقّب الفيروسات الإلكترونية وتعطيلها، إلى اكتشاف الشبكة التي لم تكن معروفة من قبل، ولم تكن مسجّلة رسمياً لدى أيّ دولة. كانت شبكة سرّيّة ودقيقة جدّاً تتمتّع بتغطية شاملة من إسرائيل.

 

تعاون أميركا مع روسيا  ضدّ إسرائيل

اضطرّت إسرائيل إلى الاعتراف بالأمر. كان اسم البرنامج الإلكتروني “ستاك نت”، وكانت العملية في إيران الأولى من نوعها في الحرب الإلكترونية. كنّ هذه الحرب لم تذهب بعيداً خوفاً من أن تؤدّي إلى تفجير نووي عن غير قصد. كان الهدف محدوداً بالتخريب والتعطيل، وبتوجيه رسالة إلى السلطة الإيرانية مفادها القدرة على فعل ذلك. ووصلت الرسالة بالفعل، إلا أنّ إيران حصّنت مشروعها النووي ببرنامج مضادّ لبرنامج “ستاك نت”، ومضت قدماً في تطوير هذا المشروع فاتحةً الطريق أمام مؤتمر فيينا لمعالجة الأمر، أو لمحاولة معالجته، بالطرق التفاوضية مع المجموعة الدولية.

حاولت إسرائيل أن تخفي سرّ “ستاك نت” حتى عن الولايات المتحدة ذاتها. لذلك اضطرّت واشنطن إلى التعاون مع موسكو لفكّ الرموز ولاكتشاف أسرار هذا البرنامج الخطير. وقتئذٍ لم تكن العلاقات بين العاصمتين سيّئة كما هي عليه الآن. وقد تمكّنتا من ذلك بالفعل بعد كثير من التعقّب والدراسة والتحليل، فما كان من إسرائيل إلا أن اعترفت، وحمّلت مسؤولية إخفاء سرّه عن الولايات المتحدة لـ”الشركة الإلكترونية الإسرائيلية الخاصة” التي أنتجته واستعملته ونقلت ما قامت به إلى الحكومة الإسرائيلية من دون أن تطلعها على سرّ معادلته كما ادّعت.

لكنّ الاكتشاف الأميركي – الروسي سبق الاعتراف الإسرائيلي. وهو اعتراف لحقت به سلسلة إعلانات إسرائيلية عن عمليات اغتيال وتخريب قامت بها في مواقع مختلفة من إيران.

 

“الإلكتروني” بد النووي؟

تنفق الدول المليارات من الدولارات على إعداد العلماء والمهندسين، وعلى بناء المنشآت النووية وتخصيب اليورانيوم، إلا أنّ كلّ ذلك يمكن أن يذهب سدى بحركة إصبع عبر الشبكة الإلكترونية.

في عام 1945 لم تكن مثل هذه الشبكة موجودة. في ذلك الوقت لم يكن في المخيّلة الإنسانية تصوّرٌ لوجودها حتى في اليابان. لذلك تمكّنت الولايات المتحدة من إلقاء القنبلتين النوويّتين في شهر آب من ذلك العام على كلّ من مدينتَيْ هيروشيما وناكازاكي من دون أن يعرف بذلك حلفاؤها الكبار الاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت إلا بعد وقوع عمليّتَيْ التفجير. أمّا الآن فإنّ الأقمار الصناعية التجسّسية التي تدور في الفضاء تلتقط كلّ شاردة وواردة، وتسجّل كلّ حركة وكلّ اتصال. ومع ذلك يبقى العالم الإلكتروني بفضل قدرته على الإبداع قادراً على تقديم المفاجآت التي تزيد من مخاوف الإنسان ومن قلقه على المستقبل والمصير.

إقرأ أيضاً: وقف التجسّس “المعلن”: موسكو وواشنطن على حافة خطأ نووي

استناداً إلى الدراسات الدولية، فإنّ القدرات النووية لروسيا والولايات المتحدة وحدهما كافية لقتل كلّ إنسان على سطح الأرض أكثر من عشر مرّات. وقد انضمّت إليهما الآن الصين، وقبلها فرنسا وبريطانيا وإسرائيل.. وكوريا الشمالية. وتقف إيران اليوم على عتبة النادي النووي بعد انضمام الهند والباكستان إليه. ولولا الشروط الدولية القاسية التي فُرضت على ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، لكانت الدولتان اليوم في مقدَّم أعضاء النادي النووي، إلا أنّهما تحتلّان موقعاً متقدّماً في جبهة اكتشاف وتعطيل عمل الترسانات النووية التي يملكها الآخرون. وهذا ما يشير إلى أنّ العالم كلّه دخل مرحلة الخضوع للهيمنة الإلكترونية بكلّ قدراتها وإمكاناتها التطويرية والتخريبية على حدّ سواء.?

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…