في البيت الأبيض إدارة ديمقراطية يقودها الرئيس جو بايدن لا تثق بها دول عديدة في العالم العربي. بلغ مستوى البرودة، إذا لم نقُل التوتّر، بين واشنطن وبعض العواصم في العالم العربي مستويات تاريخية غير مسبوقة. لم تصل الأمور إلى حدود الردح الرسميّ، لكنّ واجهات العتب تتوالى، ولم يستطِع موفدو واشنطن ترميم ما انكسر في جدار علاقة المنطقة بالولايات المتحدة.
تحدّثت الصحافة الأميركية عن رفض السعودية والإمارات الاستجابة لمناشدات واشنطن رفع مستوى التصدير في سوق الطاقة لخفض أسعار النفط المتصاعدة بسبب الحرب في أوكرانيا. كشفت أيضاً عن فشل مسؤولين أميركيين في الحصول على مواعيد مع مسؤولين سعوديّين وإماراتيّين. حتى إنّ موقع “أكسيوس” الأميركي نقل أنّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (الذي قصد المغرب متوسّلاً اللقاء)، اعتذر لوليّ عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد لتأخّر الردّ الأميركي على ضربات الحوثيين التي استهدفت الإمارات في كانون الثاني.
الأرجح أنّ “الخندق الواحد” لن يصمد كثيراً وسيضيق بالمساكنة الظرفيّة الراهنة، وأنّ دول المنطقة ستعيد الاصطفاف وفق خرائط دولية في السياسة والأمن والاقتصاد والطاقة، قد تستدعي حفر خنادق تتوالد وتتعدّد دون كلل
وإذا ما كان المزاج السعودي والإماراتي الغاضب واضح الملامح في الموقف من إدارة بايدن، فإنّ تخبّط الإدارة الأميركية في سياساتها الشرق أوسطية يثير امتعاض دول أخرى في المنطقة جرى التعبير عنه من خلال مواقفها بشأن الحرب في أوكرانيا. ولئن تُجمع كلّ الدول العربية رسميّاً على اتّخاذ موقف محايد داعٍ للحوار والبحث عن المخارج الدبلوماسية، فإنّ المنابر غير الرسمية، سواء للمتحدّثين لوسائل الإعلام أو للناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، تفصح على نحو واضح وصريح عن انحياز إلى الرواية الروسيّة.
المفارقة الكبرى، وربّما النادرة في تاريخ المنطقة، أنّ العالم العربي الذي انقسم في اصطفاف بين شرق وغرب إبّان الحرب الباردة، وبين جمهوريّات وملكيّات، وبين أنظمة “تقدّميّة ورجعيّة” وفق مفردات ذلك العصر، ينزع موقفه الرسمي في الغالب هذه الأيام إلى عدم مجاراة الجهود الغربية بقيادة الولايات المتحدة ضدّ روسيا، ويميل بالإجماع الشعبي العامّ إلى معاداة الموقف الأميركي.
تجدر الإشارة إلى أنّ الرأي العامّ العربي يقف تقليدياً ضدّ الولايات المتحدة بسبب مواقفها التاريخية المخيّبة للآمال من قضايا العرب. فلسطين طبعاً، لكن أيضاً سوريا وليبيا واليمن والعراق… إلخ. أمّا النخب، ومنها الحاكمة، يقوم موقفها من الحرب في أوكرانيا على أساس التبرّم المنطقي من إدارة جو بايدن بالذات في واشنطن.
الخندق العجائبي “الواحد”
المفارقة الكبرى أنّ موقف إيران وتيّارها “الممانع” في المنطقة مساند لموقف الحليف الروسي، فيما الموقف الإسرائيلي يكاد، لولا الحرج الكبير، أن يكون كذلك أيضاً آخذاً بالاعتبار ما بُني من مصالح إسرائيلية روسية مشتركة لها مفاعيلها في سوريا. فواقع الحال يضع الدول المتناقضة والتيارات السياسية المتعدّدة والمتعاكسة في المنطقة في خندق عجائبي واحد نادر الوجود في تاريخ الشرق الأوسط الحديث.
ولئن استنتجت واشنطن هذه الحقيقة التي وجدت لها نسخاً في مناطق أخرى من العالم حيث تلاقى أقصى اليمين وأقصى اليسار على دعم موسكو، فإنّ العرب يتأمّلون يوميّات ومسارات الحرب في أوكرانيا من بعدين:
– الأوّل فيه كيديّة ترى في هذا الحدث مناسبة للشماتة بغطرسة وعبث مارسهما الغرب في التعامل مع قضايا المنطقة.
– الثاني فيه تعويل على انتهاء هذه الحرب إلى تعديلٍ ما في توازن القوى الدولية يوسّع من هوامش المناورة في العالم، حتى لو لم يؤدِّ هذا الصراع إلى ولادة نظام دولي جديد يُروّج التنجيم بشأنه هذه الأيام.
غير أنّ الإجماع داخل “خندق العجائب” في الشرق الأوسط ليس طبيعياً. فهو محشوّ بـ”أجسام مضادّة”، ولا يمكن أن يتماسك كلّما طال أمد هذه الحرب واشتدّ وطيس نيرانها. فروسيا باتت تلوّح عبر وزير الخارجية سيرغي لافروف بأنّ الحرب النووية باتت “احتمالاً واقعياً”، بما يتكامل مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اليوم الرابع لغزو أوكرانيا، في 27 شباط، وضع أسلحة الردع الاستراتيجية (النووية) في “حالة جهوزية”. فيما تعلن برامج سياسية في التلفزيون الروسي الرسمي عن عدد الثواني التي ستستغرقها الصواريخ الروسية لضرب باريس ولندن وبرلين.
مصالح الدول العربية
لكنّ هناك ما هو أكثر من ذلك. فإذا كان موقف الرأي العام العربي سلبيّاً تقليدياً من الولايات المتحدة، إلا أنّ المواقف الرسمية العربية لها قوانين وحسابات أخرى. فهي مرتبطة من جهة بالعلاقات المتقدّمة التي أقامتها بلدان المنطقة مع روسيا منذ الاتحاد السوفياتي بالنسبة إلى بعضها، وفي عهد بوتين بالنسبة إلى البعض الآخر… لكنّها أيضاً بالمقابل رهن بطبيعة الإدارة في واشنطن وهويّة ساكن البيت الأبيض، ومدى تطوّر السياسة الخارجية الأميركية ومواءمتها لحاجات دول المنطقة الاقتصادية والسياسية وأخذها هواجس أهل المنطقة الأمنيّة بعين الاعتبار.
إقرأ أيضاً: فيينا: 8 مؤشّرات للتّصعيد الإيرانيّ المُرتقب؟
على هذا فإنّ لمآلات مفاوضات فيينا مع إيران حول برنامجها النووي تأثيراً مباشراً على الموقف الرسمي العربي (الخليجي خصوصاً) من أجندات واشنطن في العالم، بما في ذلك أوكرانيا. ناهيك من أنّ أيّ تغيّر في توازنات السلطة في الولايات المتحدة قد تفرج عنها الانتخابات النصفية في الخريف المقبل (قبل الحديث عن أيّ توقّعات تتعلّق بهويّة الرئيس الأميركي عام 2024)، سيعيد لدى العواصم العربية قراءة المشهد الدولي العامّ والموقف منه وفق معطيات مختلفة.
الأرجح أنّ “الخندق الواحد” لن يصمد كثيراً وسيضيق بالمساكنة الظرفيّة الراهنة، وأنّ دول المنطقة ستعيد الاصطفاف وفق خرائط دولية في السياسة والأمن والاقتصاد والطاقة، قد تستدعي حفر خنادق تتوالد وتتعدّد دون كلل.