التهديد النوويّ بين روسيا وأميركا.. العالم في خطر

مدة القراءة 5 د

عندما قصفت الولايات المتحدة اليابان بالقنبلة الذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يسبق القصف توجيه إنذار أو تهديد الحكومة اليابانية التي أعلنت استعدادها للاستسلام. كانت تلك العمليّة الأولى من نوعها، وبعدها دخلت الإنسانية عصر الرعب النوويّ.

لم تكن الولايات المتحدة تدرك الحجم التدميري الرهيب للقنبلة إلى أن جرّبتها في هيروشيما وناكازاكي. الآن يعرف العالم كلّه أنّ تلك القنابل لا تعادل شيئاً إذا ما قورنت بقدرة القنابل الهيدروجينية الجديدة على التدمير. لذلك لم تعد أيّ دولة نووية تهدّد باللجوء إلى السلاح النووي. أصبحت كلّ الدول التي تملك هذا السلاح، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الروسي (وقبله السوفييتي)، تحرص على صوغ الاتفاقات الدولية التي تعطّل حتى التفكير في اللجوء إلى السلاح النووي، وتبتدع الوسائل الفنّية والتقنيّات الحديثة للتأكّد من عدم تحفّز الخصم لاستعمال هذا السلاح المدمّر.

 

تلميح فتصريح

لكن الأمر تغيّر الآن. انطلق التغيير من أوكرانيا على الرغم من أنّ انفجار مفاعل تشيرنوبيل النووي الأوكراني لإنتاج الطاقة أدّى إلى تلويث معظم القارّة الأوروبية بالإشعاع الذي استمرّ لعدّة سنوات.

بدأت التهديدات الروسية على شكل إشارات وتلميحات غير مباشرة. ولكن عندما تقدّمت القوات الأوكرانية، بدعم تسليحيّ من الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي، في المناطق الشرقية المتاخمة لروسيا، انتقلت التهديدات من التلميح إلى التصريح. وكان الردّ على هذه التهديدات بتهديدات أميركية مماثلة. وهو أمر يشكّل سابقة في تاريخ العلاقات الدولية.

من الطبيعي أن تشعر روسيا بالاختناق جرّاء هذا الالتفاف الأطلسي عليها. وهنا مصدر الخطر من ردّ فعل الكرملين، ثمّ ردّ الفعل الأميركي على ردّ فعل الكرملين

كان امتلاك السلاح النووي يُعتبر قوّة ردع. أمّا الآن فلم يعد الامتلاك وحده رادعاً. أصبح التهديد باستعمال السلاح هو الرادع. كان امتلاك السلاح النووي ومعرفة الخصم بذلك أساساً لتحقيق التوازن في معادلة العلاقات المضطربة بين الدول المتنافسة أو المتصارعة. أمّا الآن فإنّ امتلاك السلاح وحده لم يعد كافياً. فكان اللجوء إلى الحديث تلميحاً عن استخدامه، ثمّ انتقل التلميح إلى التهديد باستخدامه.

لكنّ التهديد يقابَل بتهديد معاكس، الأمر الذي يستدرج الطرفين لدى تعثّر تفكيك عقدة سياسية، مثل تقرير مصير شرعية الاستفتاء الروسي في المناطق المحتلّة أو المسترجَعة من أوكرانيا الشرقية، إلى المواجهة النووية. وما يحدث الآن في أوكرانيا من خلال المواجهة الروسية – الأميركية غير المباشرة مؤشّر إلى خطورة هذا التطوّر.

 

استدراج متبادل

ثمّة تطوّر جديد طرأ على هذه المعادلة يتمثّل في توسّع حلف شمال الأطلسي وشموله السويد وفنلندا، وهما الدولتان اللتان تحيطان بالاتحاد الروسي شمالاً. ويعني هذا التطوّر اكتمال إغلاق الجبهة الأوروبية الأطلسية في وجه الكرملين، من بحر الشمال حتى المتوسط، مروراً بالبحر الأسود حتى بحر قزوين.

لقد سبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن حذّر أوروبا (والولايات المتحدة) من أن تورّط الحلف الأطلسي في الحرب سوف يؤدّي إلى “مضاعفات لم تشهدوا مثيلاً لها في كلّ تاريخكم”. كان واضحاً أنّ الرئيس بوتين يحذّر من نتائج دفعه إلى اللجوء إلى السلاح النووي.

وربّما يكون هذا التحذير النووي وراء الالتزام الصارم بعدم تحويل المساعدات العسكرية التي تقدّمها دول الحلف الأطلسي إلى أوكرانيا إلى تدخّل مباشر في الحرب، وحتى تشجيع المتطوّعين الغربيين بقي خارج دائرة المشاركة كمّاً ونوعاً.

مع ذلك يبرز سؤال مقلق يفرضه “حشر” بوتين في الزاوية بين خسارة الحرب في أوكرانيا التي تعني خسارة الرئاسة في الكرملين، أو الاستمرار في حرب استنزافية لروسيا بشرياً ومعنوياً واقتصادياً: أيّ ردّ فعل يُنتظر منه إذا وجد نفسه بين فكّي كمّاشة، إمّا خسارة أوكرانيا أو خسارة الكرملين؟

من الطبيعي أن تشعر روسيا بالاختناق جرّاء هذا الالتفاف الأطلسي عليها. وهنا مصدر الخطر من ردّ فعل الكرملين، ثمّ ردّ الفعل الأميركي على ردّ فعل الكرملين!!

من الصعب تصوّر أيّ سيناريو لاستخدام السلاح النووي في الفعل أو ردّ الفعل. ولكن في أدبيّات الحرب العالمية الثانية كتاب عنوانه: “قصّة تيباتس”. وتيباتس هو قائد الطائرة الحربية الأميركية “إينولا غاي” التي أسقطت القنبلة النووية الأميركية الأولى على مدينة هيروشيما في اليابان، واسمه الأوّل جون. واسم الطائرة هو اسم والدة الطيّار. أمّا اسم القنبلة فكان “الولد السمين”. يقول تيباتس في كتابه إنّه بعد أن ألقى القنبلة فوق معسكر للجيش الياباني قرب جسر إيوي الشهير، كان عليه أن يغيّر خطّ طيرانه بسرعة وأن يحلّق عالياً بعيداً عن الانفجار. ومع ذلك شعر بشدّة الحرارة هو وأعضاء الفريق العسكري المرافق. ويقول إنّ سحابة الانفجار النووي ارتفعت إلى ثلاثة أميال في الفضاء فوق خطّ تحليق الطائرة. وكانت درجة الحرارة فيها تصل إلى مستوى الغليان.

بعد ثلاثة أيّام، في التاسع من آب، ألقت الولايات المتحدة على مدينة ناكازاكي قنبلة ثانية أكثر قوّة وأشدّ تفجيراً مصنوعة من البلوتونيوم، حملتها طائرة من نوع “ب 29”. وكان يقودها الطيّار العسكري تشارلز سويتي.

بعد القنبلتين، في 15 آب 1945، استسلمت اليابان من دون قيد ولا شرط. وأدّى استسلامها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية.

إقرأ أيضاً: فقراء العلماء “يسرقون” لتمويل اكتشافاتهم؟

هذا السيناريو النووي غير قابل للتكرار. فروسيا 2022 ليست اليابان 1945. ولأنّ الولايات المتحدة تعرف ذلك، ولأنّ دول حلف شمال الأطلسي تعرف ذلك أيضاً، فإنّ السؤال هو: ما هو البديل؟

تراهن الولايات المتحدة على سقوط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الداخل. ويراهن الاتحاد الروسي على سقوط الرئيس الأميركي في الانتخابات الرئاسية المقبلة (2024). ولكن من يراهن على سلامة العالم؟!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…