ربح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المنازلة الرئاسية، وأضحى رئيساً للمرّة الثانية على التوالي، على الرغم من الانخفاض في نسب التصويت والتراجع في أعداد المؤيّدين له وبروز حزب الأوراق البيضاء. وخسرت مارين لوبان مع تقدّمها بالنقاط وزيادة شعبيّتها وشعبيّة اليمين وتفوّقها على نفسها. واستفاقت من حلمها الوردي السامّ بدخولها القصر كأوّل “رئيسة”. حلم كاد أن يصبح حقيقة. فهي كانت على عتبة “الإليزيه” على الرغم من انقسام يمينها الوطني والعائلي وانشطارهما.
هو فوز عاديّ في الحقيقة بالنسبة إلى ماكرون الذي يعرف هذا الواقع جيّداً في قرارة نفسه، وتكريس أقلّ من طبيعي لكنّه واقعي لسياسته الداخلية، والذي تنتظره مسيرة شائكة وهو انتصار لفرنسا الجمهورية ولشعارها ولقيمها وسياستها الخارجية واستراتيجيتها الدولية، وراحة وطمأنينة للاتحاد الأوروبي ولتحالفاته، بظهور ثلاث إشكاليّات واضحة ترسم معالم الأحداث والمستقبل للساحة الفرنسية، وهي تتمثّل: أوّلاً في “الانكسار الدائم لليمين المتطرّف في المعركة الرئاسية”، وثانياً في “ارتفاع حالة القلق عند المواطن الفرنسي”، وثالثاً في “ولاية ثانية لماكرون ترفع التحدّيات وتمهّد لانطلاقة جديدة وابتكارات”.
ربح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المنازلة الرئاسية، وأضحى رئيساً للمرّة الثانية على التوالي، على الرغم من الانخفاض في نسب التصويت والتراجع في أعداد المؤيّدين له وبروز حزب الأوراق البيضاء
1- الانكسار الدائم لليمين المتطرّف في المعركة الرئاسية:
مع نجاح مارين لوبان للمرّة الثانية على التوالي في بلوغها الدور الثاني والنهائي للانتخابات الرئاسية الفرنسية ومشاركتها للمرّة الثالثة فيها، إلا أنّها تعوّدت على التراجيديا في النتيجة وعلى نهايات موسومة بالهزيمة بالنسبة إليها وإلى اليمين، وتعوّدت على خيبة الأمل وعلى السقوط والفشل، وهذا مردّه إلى عدّة عوامل، ومن أبرزها قوّة ونجاعة التحالفات الحزبية المعادية لليمين المتطرّف وتزايد حدّة الانشقاقات داخل الحزب اليميني بحيث أصبح لفرنسا أكثر من يمين. بالإضافة إلى التسرّب اللافت والتفلّت الصريح للقياديين والكوادر اليمينية المترافقين مع العجز الموصوف للجبهة الوطنية في ضمّ نخب وازنة وفي استمالة أصحاب الأفق والبصيرة، ومع تراجع التأثير السياسي لليمين. وهنالك عامل مهمّ، وهو انخفاض معيار الثقة الشعبية والمجتمعية بالحكومات الراديكالية وعدم الحماسة لها. إذ رسب اليمين في المعركة الرئاسية لضعفه العملي والتشريعي داخل الجمعية العامة (البرلمان) والبلديات، وحتى مجالس الأقاليم، وافتقاره إلى التأثير السياسي اللامع خارج الانتخابات على الرغم من اقترابه هذه السنة من الرئاسة بفرص ملائمة لم يستغلّها جيّداً كالاستقطاب والتجيير، وشرذمة اليسار والجمهوريين والاشتراكيين واليمين الوسط، والسخط الشعبي بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية والزيادة النافرة في التكاليف المعيشية.
2- ارتفاع حالة القلق عند المواطن الفرنسيّ:
كفر المواطن الفرنسي بالمؤسّسات السياسية التقليدية ولعنها. ترجم ذلك بخروج الحزبين الجمهوري والاشتراكي مطأطئين رأسَيْهما أمام ديمقراطية مواطنيهم من الدور الأول، من بعد تعاقبهم لأكثر من نصف قرن على التحكّم بمقاليد الحكم التنفيذي والدستوري للجمهورية الخامسة. إذ فشلا في توحيد صفوفهما وفي إعادة النظر في النهج والأسلوب والآليّات الإجرائية.
تكشف لنا هذه النتائج القلق الكبير والاضطراب المريب بمزاج الناخب الفرنسي الذي قد ملّ التكتيك التقليدي والسياسي واللعبة السطحية للإدارات الفرنسية. وانخفض هامش الفرق لدى المواطن الفرنسي بين الممارسات اليمينية الديغولية واليسارية الوسطية والجمهورية. ولمس القصور والعجز بالحلول التقليدية التي انتهجتها الطبقة السياسية، سواء أكانت يسارية أو جمهورية أو يمينية. ولم تعد قادرة على ابتكار الحلول الإنتاجية المناسبة، وبشكل خاص للفقراء والمهمّشين والطبقة الوسطى التي باتت مهدّدة ومتآكلة، فلم يعد لديه أيّ مساحة للثقة بالمؤسسات الدستورية، وانقلب على كلّ المسوّدات الكلاسيكية، ولم يعد أمامه سوى خيارين، الخيار التقليدي أو الخيار غير التقليدي.
يتألّف الخيار التقليدي من احتمالين اثنين هما:
– الاحتمال الأول هو اليمين والانحراف نحو التطرّف الذي يُعلَّل سرديته بأنّ كلّ ما وصلت إليه الدولة الفرنسية الحديثة من قيم وانجازات لم تعد قادرة على حماية المواطن الفرنسي. لذلك لا بدّ من العودة إلى الدولة الأمّة والتحلّل التدريجي من العولمة والانسحاب من السياسة التحالفية والقرارات الجماعية، ويجب الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وعن حلف الناتو وتحصين هويّة الشعب الفرنسي.
– أمّا الاحتمال الثاني التقليدي فهو اليسار الرافض بقوّة للنهج الليبرالي الذي يشدّد على النموذج الفرنسي اليساري وسيطرة الدولة على الحياة الاقتصادية.
غرق كلّ من اليمين واليسار في الوحل المنفصل، وانقسما على أنفسهما أكثر، وأخطأت قياداتيهما التقدير، ولم تواكب النموّ الطبيعي لسلاسل القيمة المؤسساتية الفرنسية. ووقعت في جمودهت السلوكي وشللها الخطابي الاستعراضي. فانكسرت مرونتها وفشلت في كسب ثقة شعبها الذي توجّه بالمقابل نحو الخيار غير التقليدي، وهو ماكرون وحركة فرنسا إلى الأمام.
كان القلق الفرنسي هو السبب الأول والأساسي في اختيار ماكرون في ولايته الأولى. وإضافة إلى القلق كانت حالة النكران للمؤسسات التقليدية السبب في ولايته الثانية. على الرغم من تناقض آخر: إذ انخفضت نسبة الثقة به حتى مع ارتفاع منسوب القلق. فالرئيس ماكرون وسطيّ من حيث الشكل وبراغماتي من حيث المضمون. وهو لا يمثّل الوسط في العمق، لكنّه براغماتي النهج والهويّة باختياره للحلول المناسبة فقط من دون فرق عنده في أن تكون يسارية أو يمينية أو غيرهما كالجمهورية والاشتراكية. وفريقه يضمّ الكثير من الشخصيات اليمينية والجمهورية واليسارية والمستقلّة، فهو شخصيّاً عصارتهم جميعاً مع خلفيّة فلسفية متمسّكة بالقيم والعادات والتقاليد ومصمّمة على التجديد والابتكار.
كفر المواطن الفرنسي بالمؤسّسات السياسية التقليدية ولعنها. ترجم ذلك بخروج الحزبين الجمهوري والاشتراكي مطأطئين رأسَيْهما أمام ديمقراطية مواطنيهم من الدور الأول
3- العهدة الثانية لماكرون: رفع التحدّيات وانطلاقة جديدة:
يعاني المواطن الفرنسي من التردّد والضياع، ويتملّكه التشتّت الذهني، فمزاجه السياسي بات رقيقاً. إذ يكافح الانقسام العمودي والاختلاف الجوهري في سلوكيّاته اليومية. وقد منح ماكرون ثقته وهو ممتعض ومعارض نوعاً ما لسياسة ماكرون الداخلية. لكنّه مؤيّد لسياسته الخارجية والدولية، قاطعاً الطريق على يمين مارين لوبان وعائلتها بسبب كرهه لسياسة اليمين الداخلية والخارجية.
تقع على عاتق ماكرون في الولاية الثانية مسؤولية العمل بجهد وكدّ في ترميم السياسة الداخلية وفي توحيد الفرنسيين والقيام بشجاعة بإصلاحات جذرية لأنّ فرنسا تحتاج إليها بالفعل حتى لو كانت ستثير موجة من السخط والاحتجاجات الكبيرة.
تنتظر الرئيس ماكرون محاور كثيرة وبرامج أساسية، وعليه أن يواجهها مع التقدّم الواقعي لليمين المتطرّف للمرّة الأولى بإحرازه النقاط. فهو كان على عتبة الوصول إلى الإليزيه. هنالك صعوبات اقتصادية واجتماعية وأمنيّة وعدم المساواة الاجتماعية، وهي تشكّل تحدّياً، وهذا باعتراف ماكرون.
وحدة المجتمع هي العنوان العريض لهذه الفترة الرئاسية التي ستقوم على ما يُطلق عليه العقد الاجتماعي الجديد المشتمل على ثلاث نقاط أساسية هي:
1- التحالف التناغمي من أجل الجمهورية.
2- التناغم من أجل التحفيز الاستثماري والزيادة في القدرة الإنتاجية.
3- التشاركية التكاملية العابرة للأجيال.
يسعى ماكرون إلى انتهاج نموذجه بالتركيزعلى تحفيز السياسة الاجتماعية والاقتصادية التي تعتمد على مثلّث من المسلّمات التنموية هي:
1- دعم القطاع الصحي.
2- الاستثمار الدائري النافع للكلّ (مكافحة البطالة).
3- تحسين النظم التقاعدية حواريّاً.
يحاول أيضاً التنفيذ المادي والملموس للإصلاحات الجذرية من خلال السعي الجدّيّ أوّلاً إلى الانتقال البيئي والتوجّه بحكمة نحو تقنيّات التعليم الابتكاري والولوج التكنولوجي المتطوّر.
تنتظره في النهاية المهمّة الأصعب، وهي إرساء تقاليد العقد الجمهوري المتضمّنة نقاطاً مهمّة هي أصل الجمهورية الفرنسية، انطلاقاً من إصلاح منظومة الهجرة ومكافحة الانفصالية والتطرّف وإعلاء شأن دولة القانون والعلمانية مع التشديد على أنّها ليست دعوة إلى الإلحاد وإنّما احترام كلّ المعتقدات وحمايتها وصيانة العيش المشترك.
إقرأ أيضاً: قراءة في مناظرة ماكرون – لوبان: هل تقع المفاجأة؟
أمام الرئيس ماكرون تحدٍّ كبير لصون العقد الاجتماعي المؤتمَن عليه والذي يعتبره البعض كلمة فضفاضة وكبيرة وملهمة مع الفروقات الجديدة للمجتمع الفرنسي ذي التقسيمات الطارئة للخريطة الفرنسية السياسية والمزاج السلوكي الفرنسي، التي تنقسم فيها التكتّلات الفرنسية إلى ثلاثة أفرقاء وتوجّهات مختلفة: أوّلها فريق وحزب الرئيس ماكرون ذو التوجّه النيوليبرالي الوسطي، وهنالك اليمين المتطرّف الذي يريد أن يعود بفرنسا إلى حقبة ماضية ولّت، ولدينا اليسار الراديكالي الذي قضم وأكل الكثير من أخيه اليسار التقليدي.
على الرغم من كلّ ذلك فإنّ النسبة الكبيرة من الفرنسيين أيّدت وشجّعت على أن تبقى التوجّهات للفترة الرئاسية المقبلة ملتزمة بالسياسة الوسطية.
فهل تكون الماكرونيّة السياسية في ولايتها الثانية زاخمة وزاخرة؟