شهد العالم يوم الأربعاء الفائت مشهداً آخر من مشاهد الديمقراطيات العريقة: مناظرة بين المرشّحَيْن للرئاسة الفرنسيّة اللذين تأهّلا للدورة الثانية: الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون ومنافسته مارن لوبان. حضرا إلى الاستديو. تصافحا. جلسا أحدهما مقابل الآخر. وظهرت بينهما على الشاشة ساعتان لضبط وقت الكلام، وكأنّنا أمام حلبة مصارعة. لكن في الواقع كنّا أمام مقارعة بالحجج والأرقام والطروحات. لم يرتدِ أيٌّ من المرشّحَيْن قفّازات. فتوجّه كلّ منهما إلى الآخر بكلام قاسٍ، لكن ضمن الاحترام. قال ماكرون لمنافسته: “أحارب أفكارك. ولكن على المستوى الشخصي أكنّ لك كلّ الاحترام”. انتظر كلّ مرشّح إشارة البدء بالكلام من “الحَكَمين” (الإعلاميَّيْن، أحدهما لِيا سلامة إبنة الوزير السابق غسان سلامة اللذين حدّدا المواضيع وترتيبها، وضَبَطا توقيت الكلام لكلّ مرشّح. وتدخّلا بقوّة في كلّ مرّة كان هناك خروج عن الموضوع أو تخطٍّ للوقت المحدّد. فكانا يصرخان “إيمانويل ماكرون” أو “مارين لوبان”. لا فخامة ولا معالي ولا سعادة. فالمرشّحان هنا أمام امتحان. امتحان تابعه 15.6 مليون فرنسي عبر شاشات التلفزة. وسيضع العلامة يوم غد الأحد 42.7 مليون ناخب فرنسي في صناديق الاقتراع.
طُرحت في المناظرة كلّ المواضيع التي ظهرت في البرامج الانتخابيّة للمرشّحَيْن. ففي الديمقراطيات تُخاض الانتخابات على أساس برامج سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وتربويّة واستشفائيّة لإقناع الناخبين. وليس كما في بلادنا حيث تُخاض الانتخابات على أساس شعارات فارغة أو خطابات تحريضيّة وتخويفيّة من الطرف الآخر، الهدف منها غسل أدمغة الجماهير وشحنها بعضها ضدّ البعض الآخر.
أجمع المراقبون على أنّه لم يفُز أحد بالمناظرة. إلا أنّها أعطت تقدّماً لماكرون. لكنّ هذا لا يعني أنّ نجاحه أصبح مضموناً
ماذا ناقشا؟
النهوض الاقتصادي والقوّة الشرائية للمواطن، الضرائب وخاصّة على المحروقات، سنّ التقاعد للعمّال، القطاع التربوي وتحسين ظروف الأساتذة، القطاع الاستشفائي ودعمه بعد جائحة كورونا بزيادة عدد الأطباء والممرّضين وتحسين أوضاعهم، علمانيّة الدولة ومسألة الحجاب للمرأة المُسلمة، الاتحاد الأوروبي وموقع فرنسا فيه، السياسة الخارجيّة والحرب في أوكرانيا والعلاقة مع روسيا، كلّها مواضيع ناقشها المرشّحان على مدى أكثر من ساعتين. وكان حوارهما حامي الوطيس. فلكلّ منهما رؤية مختلفة عن رؤية الآخر، وأحياناً كثيرة متناقضة.
كان ماكرون هجوميّاً، على الرغم من أنّه دافع عن سنوات حكمه الخمس. نجح في إظهار التناقض في طروحات لوبان في عدّة مواضيع، أبرزها في الاقتصاد والمال وخفض سنّ التقاعد. فهذا ملعَبه الأساسي. واليمينيّة المتطرّفة بَدَت مرتبكة في موقفها من الاتحاد الأوروبي. فهي تراجعت عن طرحها الخروج منه. مشروعها اليوم “إصلاحه من الداخل” و”تحالف أوروبيّ للأمم” يؤدّيان في النهاية إلى إضعاف الاتحاد وربّما انفراط عقده. لذلك خرجت الصحف في اليوم التالي تتّهمها بالعمل للـ”الفريكست” (Frexit). الهجوم الأكبر الذي شنّه ماكرون ضدّ منافسته كان على خلفيّة القرض الذي حصلت عليه في 2015 من مصرف روسيّ. فاتّهمها بعدم استقلاليّة قرارها اتّجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ما خصّ الحرب في أوكرانيا. واتّهمها أيضاً بالدفع باتّجاه “حرب أهليّة” بسبب طرحها منع الحجاب في الأماكن العامّة.
من سيفوز؟
أجمع المراقبون على أنّه لم يفُز أحد بالمناظرة. إلا أنّها أعطت تقدّماً لماكرون. لكنّ هذا لا يعني أنّ نجاحه أصبح مضموناً. إذ للمرّة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة يكون اليمين المتطرّف قريباً لهذه الدرجة من دخول قصر الإليزيه لسببين رئيسيّين:
1- عدم اقتناع الفرنسيين بسياسة إيمانويل ماكرون الذي تنقصه الرؤية الاستراتيجيّة للجمهورية. صحيح أنّ الرجل نجح في انتخابات 2017 وفي هذه الانتخابات بكسر اليمين الديغولي واليسار الاشتراكي. ونجح في العديد من سياساته الاقتصادية والاجتماعية، بخاصة في إدارة ازمة جائحة كورونا وخفض نسبة البطالة إلى حوالي 7.5%. لكنّه لم يتمكّن من تعبئة الفراغ الذي أوجده غياب الحزبين التقليديّين عن الساحة السياسيّة. فقد أظهرت نتائج الدورة الأولى أنّ غالبيّة الشباب الفرنسي (بين 18 و34 سنة) صوّتوا للسبعينيّ جان لوك ميلانشون بنسبة تخطّت 30% مقابل أقلّ من 20% لماكرون. وهو ما يشير إلى أنّ الشابّ ماكرون وطروحاته لا يجسّدان طموحات الشباب الفرنسي. وهذا ما يدلّ على أنّ الماكرونيّة السياسيّة ربّما تكون مرحلة انتقالية بين نهاية الحزبين التقليديّين وظهور أحزاب أخرى، وربّما بين نهاية الجمهورية الخامسة ونشوء الجمهورية السادسة.
2- ظهور “التجمّع الوطني” الذي تتزعّمه مارين لوبان أقلّ تطرّفاً من جهة لأنّ مارين لوبان تراجعت عن بعض طروحاتها الشوفينيّة المتطرّفة، منها ما خصّ الاتحاد الأوروبي، لتُلاقي طموحات الفرنسيين. ومن جهة ثانية لأنّ خطاب المرشّح إيريك زيمور بدا أكثر تطرّفاً منها وسمّى الأشياء بأسمائها. وبدَت لوبان في هذه الحملة أكثر اطّلاعاً على الملفّات الاقتصادية والماليّة والاجتماعيّة منها في الحملات السابقة.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، تُعطي استطلاعات الرأي تقدّماً لماكرون على منافسته لوبان ما بين ثمانٍ وعشر نقاط. على الرغم من ذلك يبقى المراقبون حذرين. تزيد من حذرهم مفاجأتا نجاح دونالد ترامب في انتخابات أميركا والتصويت على الـ”بريكسيت” في بريطانيا في 2016. وفي فرنسا، كما في الديمقراطيات العريقة. طلب العديد من المرشّحين، بعد سقوطهم في الدورة الأولى، من ناخبيهم انتخاب ماكرون أو عدم انتخاب لوبان، فيما طلب آخرون انتخاب لوبان أو عدم انتخاب ماكرون. لكنّ هذا لا يعني حتميّة تقيُّد الناخب. فالناخب الفرنسي إنّما يقتنع بالبرنامج بعد المناظرة المُتلفزة ويعطي صوته للمرشّح، أو لا يقتنع ويحجب صوته بورقة بيضاء أو بالمقاطعة. لذلك يتابع المرشّحان جولاتهما الانتخابيّة حتى الدقائق الأخيرة من الحملة.
إقرأ أيضاً: في غياب ضربة قاضية لمارين لوبن!
فهل يُفاجأ الفرنسيون والعالم عشيّة غد الأحد بفوز لوبان؟
لا أعتقد ذلك.
الديمقراطيات تسير نحو الأمام.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية