“أبو ملحم” الرياشي (1): مرشّح صليب المصالحات

2022-04-14

“أبو ملحم” الرياشي (1): مرشّح صليب المصالحات

“شيلوا الصورة، مش محرزة يتخانقوا شباب الضيعة على صورة”.

هكذا حسم الأمر مع مراجعيه واتصالاتهم الكثيرة، حول تنطّح شبّان عونيين لإنزال صورته عن مدخل ضيعته، الخنشارة، لرفع صورة أخرى مكانها، على الرغم من أنّه مدخل ضيعته، ومسقط رأسه.

غضب مرافقوه، وشقيقه، وأقرباؤه: “في الانتخابات لا تنفع عقلية ملحم، ولا أبو ملحم”، قال أحدهم، معترضاً ورافعاً صوته. لكنّه أصرّ.

من هذه الحادثة، يمكن الدخول إلى عقل ملحم الرياشي، ومحاولة كتابة سيرة سريعة لهذا “الراهب” غير المعلن، أو الناسك الذي أمضى معظم حياته داخل ضيعته، ولم يستطع أن يغادرها إلا في زيارات متقطّعة، لا تطول.

ثلاث حكايات تفتح أبواب شخصيّة ملحم الرياشي. فهو لا يطيق الابتعاد عن لبنان، والخنشارة تحديداً. لا من أجل العمل ولا الدراسة ولا اللهو. وهو لا يطيق الخلافات

نقفز من 2022 إلى 1990. التحق المتخرّج الجديد من كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانية، بفرصة عمل في مجلّة اقتصادية في قبرص، وبراتب مغرٍ جداً.

ركب الطائرة يوم الإثنين. يوم الخميس دقّ الباب في الخنشارة. فتحت الوالدة. فإذا هو ملحم: “شو صار؟”. سألوه. فأجاب أنّه سمع أغنية “نسّم علينا الهوا، من مفرق الوادي، يا هوا دخل الهوا، خدني على بلادي”. فحملته الأغنية، على جناح “الهوا”، ورمته في الضيعة مجدّداً. تلك التي كانت السبب في أنه “يزور” الجامعة ثم يعود إليها.

نصل إلى 1998. بعد خسارة ألبير مخيبر الانتخابات النيابية في 1996، وقد كان ملحم ظلّه والمتحمّس الأوّل لإيصاله إلى ساحة النجمة، قرّر أن يسافر ليتابع دراساته العليا في كندا. سافر. ودّعه شقيقه عبد الله هو و”بوسي” الأشقر في مطار بيروت. راهنه الأشقر: “بتشارط بيرجع بعد يومين؟”. وربح الرهان. عاد ملحم وقرّر أن يدرس من لبنان، وأن يسافر ويعود، بدل الإقامة في كندا طوال مدّة الدراسة.

ثلاث حكايات تفتح أبواب شخصيّة ملحم الرياشي. فهو لا يطيق الابتعاد عن لبنان، والخنشارة تحديداً. لا من أجل العمل ولا الدراسة ولا اللهو. وهو لا يطيق الخلافات. منذ طفولته، حين كان مجايلوه يدخلون في التشكيلات العسكرية الحزبية أفواجاً، كان هو يقترب من الرهبان، ويمضي الأوقات معهم. وظنّ أصدقاؤه طويلاً أنّه سيصير راهباً، أو ناسكاً. وفعلاً، دخل الدير في منتصف التسعينيّات، لكنّ والدته ذهبت وعادت به إلى المنزل. لكنّه صار زائراً شبه مقيم بين الرهبان، يستمع إليهم، ويناقشهم، ويحبّون مجالسته ومناقشته. وأقربهم إلى قلبه الأب فليبيانوس كفوري.

 

المطحنة.. والتصالح

من النادر أن يولد طفل لبناني على خطوط التماس الطائفية في سبعينيّات القرن الماضي، وألا يقرّر حمل السلاح ليطلق النار على من هم في الجانب الآخر من الخطّ.

كان الأطفال والمراهقون في الستينيّات والسبعينيّات والثمانينيّات يكبرون وسط معسكرات التدريب، وتحصدهم جولات القتال الأهليّ. وكثيرون منهم كانوا من طلاب الجامعات، يقاتلون “دفاعاً عن المنطقة”، بين صفّ دراسي وآخر، أو يتركون الجامعات، كما فعل سمير جعجع في سنة الطبّ الأخيرة. وصار “حكيم” المنطقة “الشرقية”.

في ذلك الحين، كانت الشهادة الأساسية تأتي من حمل السلاح. وكانت الشرعية تتكوّن من الرصاص والبارود. لم يكن للعقل مكان معتبر في سنوات الحرب المديدة. لم يكن هناك صوت يعلو فوق صوت المعركة. وقليلون قرّروا أن يتابعوا دراساتهم، وأن يكونوا صوت العقل وسط جنون الحرب وأهوالها.

منذ طفولته، حين كان مجايلوه يدخلون في التشكيلات العسكرية الحزبية أفواجاً، كان هو يقترب من الرهبان، ويمضي الأوقات معهم

في الكرنتينا عام 1976 قُتل ابن عمّه خوان الرياشي. وكان ملحم طفلاً لا يتجاوز 7 سنوات. ثمّ لحق به ابن خالته، وصديقه، وليد المنيّر، الذي كان طالباً متفوّقاً في كلية الهندسة بالجامعة اليسوعية. قُتِلَ على محور وادي شحرور في “حرب الجبل” وكان ملحم مراهقاً.

هكذا أخذت الحرب، باكراً، أصدقاءه وأقرباءه. وفي تلك الفترة بدأ يتكوّن قراره بألّا يكون وقوداً لهذه النار، وأن يعمل بعيداً عن مطحنتها العسكرية، وأن يبحث عن الأبواب والنوافذ التي يمكن منها لجم كلّ هذا العنف.

 

الجمّيزة قبل الحرب

قبل أن يكمل عامه السادس، تركت العائلة منزلها في الجمّيزة وعاد بهم الوالد إلى الخنشارة. صارت الجمّيزة خطّ تماس. وكانت الخنشارة بعيدة. لكنّ المقاتلين الفلسطينيين ما لبثوا أن وصلوا إلى “الغرفة الفرنسية”، وكادوا أن يجتاحوا الجبل من خلف، لولا دخول قوات الردع السورية التي حلّت محلّهم في 1976.

من “الفلسطينيين” إلى “السوريين”، كانت فكرة “الغريب” تستوي في مخيّلات المسيحيين. وكان التنافس في السبعينيّات بين “الأحرار” و”الكتائب”، لاستقطاب المراهقين والشبّان، وتدريبهم وإرسالهم إلى خطوط التماس.

كان أصدقاء ملحم في “الأحرار”، فيما انخرط شقيقه عبدالله في “الكتائب”. وفي نهاية مراهقته، ذهب ملحم إلى كليّة الإعلام في بيروت، فيما لحق عبد الله ببشير الجميّل إلى “القوات”.

من درب الجامعة تعرّف إلى “الحكيم” وليس من ساحات القتال. كان “الحكيم” يستقبل وفوداً طالبية في دير سيّدة ميفوق بالقطّارة. وفي تلك الجلسات يمكن القول إنّ ملحم تكوّنت لديه القناعات “القوّاتية”. لهذا بُنيَت علاقة “عقلانية” وليس بتراتبية عسكرية. ليسوا “رفاق سلاح” بهذا المعنى، بل “رفاق نقاش”. لاحقاً توطّدت علاقته بستريدا أيضاً. وبعد اعتقاله لم ينفكّ عن اللقاء بها، سواء في يسوع الملك أو في منزل إدي أبي اللمع في الدكوانة.

بعد حرب الإلغاء بين المسيحيين، وقبل أن يصير جعجع في السجن بشهور، أصدر كتاب “قادة ونكبة” عام 1994، في نقد تلك الحرب، وفي رفض “عبثية الحرب بين الإخوة”. وكانت تلك أولى الإشارات المبكّرة إلى شخصية ملحم التصالحية، التي ترفض الخلافات، أيّاً كانت، والتي تسعى إلى عقد المصالحات.

 

مصالحة مخيبر – المرّ

بعد هزيمة ألبير مخيبر في انتخابات العام 1996، رأى ملحم أنّ من الضروري مصالحة آل مخيبر وميشال المرّ، من أجل تعبيد الطريق أمام مخيبر إلى ساحة النجمة. وقد كان هناك خلاف بين نسيب لحّود وإميل لحّود. وقد تفرّغ ملحم كليّاً من العام 1996 إلى العام 2000 من أجل إتمام هذه المصالحة المتنيّة، ومن أجل تسويق ألبير مخيبر، في بيئة كانت “العيون” السورية تملؤها، ووسط قبضة أمنيّة لبنانية – سورية شديدة تجعل العمل السياسي محفوفاً بالمخاطر من كلّ شكل ولون.

دخل ألبير إلى مجلس النواب، وقال جملته الشهيرة: “أطلب جلاء الجيش السوري عن لبنان”، معلناً عدم شرعيّة الوجود السوري في لبنان، ومطلقاً كرة ثلج سياسية ظلّت تكبر إلى أن انفجرت في وسط بيروت ذات 14 شباط 2005.

حين قال مخيبر تلك الجملة، مفتتحاً زمن المواجهة السياسية الكبيرة، شعر ملحم أنّ تعب السنوات الأربع قد أثمر. ومَن قرأ كتابه “ألبير مخيبر” الصادر عن “دار سائر المشرق” قبل أسابيع قليلة، يعرف كيف حاك التحالفات، من سمير جعجع في سجنه، إلى ميشال عون في منفاه، إلى إميل لحّود الذي كان يريد إسقاط نسيبه نسيب، إلى آل الجميّل، وكيف أقنع بكركي بحماية تحالفه مع آل المرّ…

كانت تلك “لمعة” ملحم رياشي، وفلسفته اللاعنفية في الاعتراض: “انتصار استراتيجي” عن حقّ، لأنّه نقل المواجهة مع النظام السوري من الشارع، ومن بكركي، إلى تحت قبّة البرلمان الذي كان يسيطر عليه القرار السوري.

بعدها، عرض عليه الياس المرّ أن يرافقه إلى وزارة الداخلية. واتّفقا على أنّ الخلاف السياسي لا يمنع ملحم من أن يقدّم خبراته في استراتيجيات التواصل لصناعة صورة الياس المرّ كوزير للداخلية. وانتقل من صانع المصالحة المتنيّة، إلى صانع صورة وزير الداخلية من 2000 إلى 2005.

إقرأ أيضاً: الرياشي لـ”أساس”: يريدون دفن لبنان في ضريح الحريري

* صدر لمحلم الرياشي الكتب التالية خلال مسيرته:

– “قادة ونكبة” (1994)

– “يهوذا الاسخريوطي الخائن البار”  (1995)

– “مزمور السجين” (1997)

– “عبور” (1998)

– “ألبير مخيبر- ميشال المرّ، العلامة الفارقة”  (2000)

– “البئر” (2003)

– “حارس القبر” (2007)

– “كتاب العتب” (2016)

– “ألبير مخيبر” (2022)

 

في الحلقة الثانية غداً:

“أبو ملحم” الرياشي: المُقاتِل… بسلاح مار بولس

مواضيع ذات صلة

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…

طلال سلمان في ذكراه… “أين الطريق”؟

قبل عام كامل غادرنا طلال سلمان، بعد سبع سنوات من توقف جريدته “السفير” عن الصدور. غادرنا قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان، وتمرّ…

وليد فيّاض وعجائبه السّبعة: تحويل “الكرامة” إلى “فيولة”‎

اختصر وزير الطاقة وليد فياض في كلمتين فلسفة المنظومة السياسية التي يمثّلها: “الكرامة” و”أميركا”. ونحن اللبنانيّين عالقون بلا كهرباء، بين هاتين الكلمتين. نحن المحكومون من…

يحيى السنوار: إيمان عميق وبراغماتيّة أيضاً؟

غاب عن المشهد 23 سنة، فلمّا عاد إليه عام 2011، ارتقى بسرعة سلّم القيادة، فأضحى في عام 2017 بعد ستّ سنوات من تحرّره رئيس الحركة…