مهما طالت الحرب الروسية في أوكرانيا، ومهما تعاظمت الخسائر، لا بدّ أن تضع الحرب أوزارها.
تطرح هذه الحتميّة التاريخية علامتيْ استفهام:
الأولى: كيف ستنتهي الحرب؟
الثانية: أيّ نظام عالمي جديد سيقوم فوق ركامها؟
تحتاج محاولة الإجابة على السؤالين إلى العودة إلى الوراء. إلى التاريخ الحديث. فما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى انفجرت الحرب الكوريّة.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية “واثقة الخطوة تمشي ملكاً”. كان بطل الجبهة الشرقية في المحيط الهادئ الجنرال ماك آرثر الذي بلغ من الاعتداد بالنفس حدّ رفض أن يؤدّي التحيّة العسكرية للرئيس فرانكلين روزفلت. وكان بطل الجبهة الغربية في أوروبا الجنرال دوايت آيزنهاور الذي انتقل من جبهة القتال في أوروبا ضدّ النازية إلى البيت الأبيض.
جدّدت الحرب الأوكرانية شباب حلف شمال الأطلسي وعزّزت وحدته ورفعت من حجم إنفاقه العسكري
قادت حسابات الجنرالين الولايات المتحدة إلى شنّ حرب مبكرة ضدّ الصين، كانت كوريا مسرحاً لها، ثمّ قادتها إلى الحرب في فيتنام.
اعتقدت واشنطن أنّ الصين بزعامة ماوتسي تونغ تشكّل خطراً على مستقبل المصالح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأقصى، لذلك وجدت أنّه لا بدّ من قطع الطريق أمامها. وكانت الصين الخارجة من حرب داخلية مدمّرة تتطلّع إلى استعادة حضورها في المجتمع العالمي. لم تكن تشكّل في ذلك الوقت أيّ تهديد لمصالح الولايات المتحدة، لكنّ واشنطن كانت تعتقد أنّ الصين في طريقها إلى التحالف مع روسيا، لذلك يجب ضربها لمنع قيام هذا التحالف. وكان ذلك اعتقاداً خاطئاً كما أثبتت الوقائع فيما بعد.
الصين الضعيفة أمس
عندما تحوّلت كوريا إلى مسرح للصراع، كانت الولايات المتحدة تتمتّع بفائض من القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية. أمّا الصين الخارجة من ثورة داخلية ومن حرب مع اليابان قُتل فيها الملايين، فلم تكن تملك طائرات حربية ولا مدفعيّة ميدان.
أدّت مقاطعة الاتحاد السوفياتي لجلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي إلى تمرير مشروع القرار الأميركي بشنّ الحرب على كوريا الشمالية باسم الأمم المتّحدة. في ذلك الوقت أنهكت الحرب الأهليّة الصين وقسّمتها إلى معسكرين: معسكر ماوتسي تونغ في بيجين، بوّابته كوريا الشمالية لأنّه كان يعتبرها خطّ الدفاع الأوّل عن العمق الصيني، ومعسكر الجنرال تشاي كاي شيك المتحالف مع الولايات المتحدة واللاجئ بقوّاته إلى جزيرة تايوان (فورموزا في ذلك الوقت)، التي كانت واشنطن تعتبرها رأس جسر للالتفاف على قوات ماوتسي تونغ.
دارت الحرب بين القوات الأميركية – الكورية الجنوبية والقوات الصينية – الكورية الشمالية. لم يكن لدى الصينيين في ذلك الوقت سلاح طيران. وكان ستالين قد وعد بتزويدهم به إلا أنّه نكث وعده. ولم تكن لديهم مدفعية ثقيلة سوى تلك التي كانت القوات الصينية تصادرها من القوات الأميركية المتراجعة.
كان عدد القوات الصينية يبلغ 300 ألف رجل، تعرّض معظمهم للمجاعة، كما يوثّق ذلك المؤرّخ الأميركي ديفيد هالبرستان في كتابه “الشتاء القارس: أميركا والحرب الكورية”.
مع ذلك تمكّن أولئك الجوعى من الالتفاف حول القوات الأميركية التي كانت تتحرّك بصعوبة بآليّاتها العسكرية الضخمة بين مرتفعات كوريا ووديانها، وألحقوا بها خسائر بشرية كبيرة، وصادروا بعض آليّاتها ومدافعها.
الصين القويّة اليوم
لكنّ أولئك الجوعى أصبحوا الآن يملكون الطائرات الحربية والقنابل النووية والصواريخ العابرة للقارّات والأقمار الصناعية التي تكشف مواقع وتحرّكات العدوّ، ويسيِّرون السفن المقاتلة وحاملات الطائرات. ويقفون على استعداد حتى لاقتحام تايوان لاسترجاعها إلى حضن الصين الأمّ.
بعد الحرب العالمية الثانية توجّهت الولايات المتحدة نحو الحرب الكورية. وكادت بعد الحرب الأفغانية أن تتورّط في مجابهة مع الصين. إذا حدث ذلك، لا سمح الله، فسيكون أخطر وأسوأ ما يمكن أن تتعرّض له الإنسانية. لكنّ الانفجار في أوكرانيا نقل الاهتمام الأميركي إلى المجابهة مع روسيا. وكلّ همّ واشنطن الآن هو قطع الطريق أمام التحالف أو حتّى مجرّد التعاون الروسي – الصيني.
جدّدت الحرب الأوكرانية شباب حلف شمال الأطلسي وعزّزت وحدته ورفعت من حجم إنفاقه العسكري.
إقرأ أيضاً: عالم ما بعد الحرب في أوكرانيا؟
لكن ماذا بعد؟
تجيب على هذا السؤال الحاجة إلى نفط الشرق الأوسط وغازه. وهي الحاجة التي بدأت إعادة رسم خريطة العلاقات ليس فقط بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع دول المنطقة، بل بين دول المنطقة ذاتها.
وإنّ غداً لناظره قريب.