أدّت الحرب في أوكرانيا إلى هجرة واسعة نحو دول أوروبا الشرقية، وخاصة إلى الدولتين المجاورتين بولندة والمجر، ومنهما إلى ألمانيا ودول أخرى.
وحدهم يهود أوكرانيا قرّروا الهجرة إلى إسرائيل.. وفتحت إسرائيل لهم وحدهم أبوابها مرحّبة.
ليست هذه المرّة الأولى التي يهاجر فيها يهود دول أوروبا الشرقية إلى إسرائيل. هناك أعداد كبيرة سبقتهم إلى فلسطين المحتلّة، وخاصة من بولندة والمجر وتشيكوسلوفاكيا. ومشهور قول الرئيس الروماني السابق تشاوشيسكو: “أفضل صادرات رومانيا هي اليهود والألمان والنفط”.
أدّت الحرب في أوكرانيا إلى هجرة واسعة نحو دول أوروبا الشرقية، وخاصة إلى الدولتين المجاورتين بولندة والمجر، ومنهما إلى ألمانيا ودول أخرى
لكن هناك فرق كبير بين الهجرة والتهجير. فالهجرة عمل اختياري هدفه البحث عن حياة أفضل. أمّا التهجير فعمل فرْضيّ، هدفه الإبعاد القسريّ.
عرفت أوروبا النوعين منذ القرن التاسع عشر، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت الولايات المتحدة هي وجهة المهاجرين.
أدّت الهجرة إلى افتقار المجتمعات الأوروبية الشرقية إلى أهل الاختصاص واليد العاملة. كان من حسنات ذلك أنّ الأبواب فُتحت أمام المرأة لملء الفراغ في الدوائر الحكومية وفي المصانع والحقول الزراعية. وقد فرض كثير من الحكومات قيوداً على الهجرة. من تلك القيود المماطلة الطويلة في إصدار جوازات السفر. ومنها اعتقال وكلاء السفر وتعطيل أعمالهم، وفرض غرامات ماليّة عالية عليهم.
ذهبت حكومات تلك الدول إلى تحريض الصحف المحليّة على نشر أخبار غير صحيحة تزعم أنّ المهاجرين إلى الولايات المتحدة يتعرّضون هناك للعنف وسوء المعاملة، وحتى للاضطهاد، وذلك بهدف التخويف من الهجرة. مع ذلك فقد بلغ عدد المهاجرين من النمسا – هنغاريا وحدها إلى الولايات المتحدة أكثر من 300 ألف شخص في عام واحد (1907). وهو رقم قياسي واستنزافي لمجتمع الإمبراطورية النمساوية في ذلك الوقت.
غير أنّ اليهود اُستُثنوا من القيود المشدّدة التي فُرضت على الراغبين بالهجرة. وبدلاً من القيود كان هناك تشجيع لهم. وكان الهدف من وراء ذلك معالجة ما كان يُسمّى “القضية اليهودية”. فمجتمعات أوروبا الشرقية، بما في ذلك روسيا، لم تكن تتعايش بوئام وسلام مع اليهود.
الحدّ من الهجرة
عندما قامت الدول الوطنية بعد تفكّك الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية، بادرت هذه الدول مثل بولندة وتشيكوسلوفاكيا إلى إصدار تشريعات للحدّ من الهجرة، وتشريعات مماثلة، لكن لتسهيل وتشجيع هجرة اليهود. وذهبت هذه الدول في التشجيع على الهجرة إلى حدّ التهجير، وهو ما يفسّر العبارة الشهيرة للرئيس الروماني تشاوشيسكو.
استغلّت دول أوروبا الشرقية ظاهرة الهجرة الواسعة لممارسة التهجير على أوسع نطاق، مستهدفةً اليهود حصراً. واليوم تواجه أوكرانيا هجرة واسعة نتيجة للحرب مع روسيا
لم يكن اليهود مرغوباً في بقائهم في دول أوروبا الغربية. فكان توجيه حركة التهجير نحو فلسطين. ومن هنا كانت أهميّة وعد بلفور. من هؤلاء اليهود بن غوريون، رئيس أول حكومة إسرائيلية في عام 1948. ومنهم موشي شاريت (وزير الخارجية الأسبق)، والرؤساء مناحيم بيغن، وشيمون بيريس، إلى جانب عدد كبير من الرعيل الأول من حكّام إسرائيل وقادة جيشها.
استغلّت دول أوروبا الشرقية ظاهرة الهجرة الواسعة لممارسة التهجير على أوسع نطاق، مستهدفةً اليهود حصراً. واليوم تواجه أوكرانيا هجرة واسعة نتيجة للحرب مع روسيا.
لا يجد اليهود المهاجرون ترحيباً في بولندة ولا رومانيا المجاورتين لأوكرانيا. إلا أنّهم يجدون فيها التسهيلات اللازمة لمواصلة مسيرة الهجرة إلى فلسطين المحتلّة. وهكذا تتحوّل هجرتهم من أوكرانيا إلى جارتيْها، إلى تهجير نحو إسرائيل التي تتلقّفهم بالأحضان كما فعلت من قبل وحتى اليوم مع يهود الحبشة الفلاشا، الذين هجّرتهم عبر السودان في عمليّة لم تعد سرّيّة.
في الثلاثينيّات من القرن العشرين، أي قبل قيام إسرائيل، وضعت الدول الأوروبية مشروعاً لتهجير مواطنيها من اليهود إلى جزيرة مدغشقر وإلى جزيرة غينيا الاستوائية التي كانت تابعة في ذلك الوقت لبريطانيا. أدّى ذلك المشروع إلى طرح علامة استفهام كبيرة: هل الهدف من المشروع إنقاذ اليهود أو التخلّص منهم؟ وهل ما يتعرّضون له هو هجرة أو تهجير (إبعاد)؟
أيّاً تكن الإجابة على السؤالين، فقد كان يهود أوروبا الشرقية ضحية عنصريّة لا ساميّة دفع ثمنها الفلسطينيون في الحسابات الأخيرة.
إقرأ أيضاً: غزّة بعد أوكرانيا: لن يمرّ قصف المدنيين بعد اليوم
اليوم، وعلى الرغم من أنّ الرئيس الأوكراني الذي يتزعّم جبهة التصدّي للعمليّة العسكرية الروسية هو يهودي، وعلى الرغم من أنّه يلقى التشجيع من دول حلف شمال الأطلسي، إلا أنّ ذلك لم يغيّر من مواقف المجتمعات الأوروبية من اليهود الأوكرانيين. ذلك أنّ هجرتهم إلى بودابست أو وارسو هي هجرة مرحلية قصيرة جدّاً، لإنجاز إجراءات نقلهم جوّاً إلى إسرائيل حيث يوزَّعون على المستوطنات الجديدة في الضفّة الغربية والنقب.
وهكذا ومنذ مطلع الثلاثينيّات من القرن الماضي “تحبل” الصراعات في أوروبا و”تلد” مهاجرين يهوداً في فلسطين.