مخاطر انتقال أوكرانيا من الدفاع إلى الهجوم

مدة القراءة 7 د

ميك ريان (Mick Ryan*) – The Sydney Morning Herald

لو كنت مخطّطاً عسكرياً في مقرّ القوات المسلّحة الروسية في موسكو، لكنتُ قلقاً على أمني الوظيفي الآن، ولا سيّما بعد انتقال الروس من الخطة “A”، أي استعمال قوات خفيفة مع دعم جوّي للسيطرة على النقاط الأساسية في كييف، وإسقاط النظام خلال 48 ساعة، وقد فشلت، إلى الخطة “B”، وتقضي باستنزاف الأوكرانيين في هجمات من محاور عدّة، وتدمير المدن الصغيرة لتكون مثالاً لكييف، وقد فشلت، إلى الخطة “C”، التي أعلنتها وزارة الدفاع الروسية أخيراً، وهي استعمال القوة النارية لتدمير ما أمكن من البنية التحتية الأوكرانية، والحفاظ على المكتسبات في الميدان، وتركيز الجهد الرئيسي على إقليم دونباس في الشرق لاستكمال السيطرة عليه، وقد لا تنجح الخطة أيضاً.

بعد شهر من انطلاق غزو أوكرانيا، وبعد عدّة أشهر من بدء الحشد العسكري على الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية لأوكرانيا، لم تحقّق القوات الروسية بعد الأهداف الرئيسية التي حدّدتها لحربها

فبعد شهر من انطلاق غزو أوكرانيا، وبعد عدّة أشهر من بدء الحشد العسكري على الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية لأوكرانيا، لم تحقّق القوات الروسية بعد الأهداف الرئيسية التي حدّدتها لحربها. وفي كثير من النواحي، يُعتبر هذا النموذج أحدث كارثة عسكرية من نوعها. لم ينجح الدعم اللوجيستي للجيش الروسي، وتعرّضت المناطق خلف خط التقدّم الروسي للهجوم باستمرار. جرى اعتراض الاتصالات العسكرية، فأدّى إلى مقتل كبار الضباط الروس. أظهر سلاح الجوّ الروسي تحفّظاً ملحوظاً (حتى وقت قريب) عن المشاركة الجادّة في الحرب. تراجع البيلاروسيون عن فكرة الانضمام إلى الحرب مع الروس. وضع كبار المخطّطين العسكريين الروس افتراضات سيّئة حول المقاومة الأوكرانية المحتملة. ثمّ كان التدمير الدراماتيكي لسفينة الإمداد الروسية بالصواريخ الباليستية الأوكرانية بالقرب من ماريوبول هذا الأسبوع. كان المشهد مؤثّراً، لكنّه شبيه بالكمائن التي تقع على الأرض في الشمال، والتي تشكّل جزءاً من التدهور البطيء للخدمات اللوجيستية الروسية في أوكرانيا. في غضون ذلك، يجري بثّ المعلومات من جانب واحد. ومن الواضح أنّ أوكرانيا هيمنت في خضمّ الصراع العالمي من أجل التأثير في الرأي العام.

كلفة عالية للتقدّم الروسي

بلغت القوات الروسية الآن ذروتها في هجماتها في الجنوب والشمال. لم تحرز القوات الروسية أيّ تقدّم تقريباً في هذه المناطق منذ أيام، مقابل بعض التقدّم للجيش الروسي ووكلائه في الشرق في الأيام القليلة الماضية، الذي كان بشقّ الأنفس وبتكلفة عالية. تتمثّل الحملة الروسية الآن إلى حدّ كبير بالقصف المدفعي الطويل المدى، وإطلاق صواريخ على مناطق مأهولة لإرهاب المدنيين، ومحاولة إجبار حكومة زيلينسكي بالقوّة على ما يوصف بـ”حياد أوكرانيا، ونزع سلاحها، وتجريدها من الفكر النازي”. لكن في الأيام الماضية، كانت هناك تقارير تفيد بأنّ الأوكرانيين شنّوا عدّة هجمات على القوات الروسية في الجنوب والشمال. إنّ الهجوم المضادّ ضدّ قوّات عدوّك هو عملية اعتيادية، خاصة بالنسبة إلى القوات المدافعة. وبشكل عام، تحتفظ القوات المدافعة بقوات احتياطية لهذا الغرض فقط. ولديها خطط مسبقة لشنّ الهجمات المضادّة، فضلاً عن تجهيز القصف المدفعي المساند.

 

ومع ذلك، يبدو أنّ الهجمات الأوكرانية الأخيرة ليست هجمات مرتدّة محليّة وحسب. فماذا قد يعني هذا للآتي من أيام الحرب؟ هل يعني أنّ الأوكرانيين ربّما يفكرون في شنّ هجوم أوسع لدفع الروس إلى الشمال والشرق والجنوب قبل أن تُرسّخ القوات الروسية أقدامها في خنادق دفاعية؟ إنّه أحد الخيارات التي تبحث فيها القيادة العليا الأوكرانية بالتأكيد، إذ سترغب في استغلال الفرص مثل الأعداد الكبيرة من الجنود الروس المحاصرين في أماكن مثل جيب بوتشا (Bucha) غرب كييف. فإذا نفدت القدرة الهجومية للعدوّ، وكان الدعم اللوجيستي محدوداً، وكانت سيطرته ضعيفة في الجوّ، فقد تكون فرصة ضيّقة أمام الأوكرانيين لتنفيذ هجمات من أجل استرداد بعض أراضيهم. لكنّ القيادة العليا الأوكرانية، إذا كانت تدرس مثل هذه الخطة، فهي تواجه كثيراً من التحدّيات.

أوّلاً، يُعدّ تخطيط العمليات الهجومية وتنسيقها مهمّة معقّدة جدّاً. لقد أثبت الروس ذلك في الشهر الماضي. إنّها تنطوي على عدد من التشكيلات العسكرية الكبيرة، وغالباً ما تتحرّك على محاور متباينة. عليهم القتال باستمرار للتقدّم إلى الأمام، ويجب أن يتزامن القصف المدفعي وإطلاق الصواريخ البعيدة المدى مع الهجوم الجوّي الأرضي، وإطلاق الحرب الإلكترونية والدعم اللوجيستي. وهي تعتمد أيضاً على القيادة العسكرية الجيّدة، التي تستغلّ الفرص على كلّ المستويات. هذا صعب بما فيه الكفاية في وقت السلم خلال المناورات. أمّا بعد شهر مرهق، دُمّر فيه جزء من جيشهم، فسيكون الأمر صعباً جدّاً (لكن ليس مستحيلاً) على الأوكرانيين.

ثانياً، من المحتمل أن تعتمد العمليات الهجومية الأوكرانية على استعمال الاحتياطي العسكري، ونحن لسنا متأكّدين من أنّها تمتلكه. فقد نُقل عن أحد كبار الضباط العسكريين الأوروبيين الأسبوع الماضي أنّ الأوكرانيين لم يكن لديهم احتياطي عملياتي، وأنّهم أدخلوا جيشهم بكامله في ميادين القتال. هذا غير مرجّح لأنّ ذلك لو كان صحيحاً، فلن يكونوا قادرين على الاستجابة لعدد من الاندفاعات الروسية المدرّعة من دون توافر الاحتياطي. لذلك من المحتمل أن يكون لديهم احتياطي من القوات العسكرية في مكان ما. لكن هل هذا كافٍ؟ وهل الأوكرانيون على استعداد لاستعماله في عمليات هجومية مع العلم أنّهم مضطرّون إلى الدفاع عن أجزاء كبيرة من بلادهم في الوقت نفسه؟

ثالثاً، الهجوم أكثر صعوبة من الدفاع من الناحية اللوجيستية. خلال الشهر الماضي، اعتمد الأوكرانيون على خطوط الإمداد في بلادهم، والتي جرى تقصيرها بشكل عام. أثناء الهجوم، تطول خطوط الإمداد يوميّاً، الأمر الذي يجعل التحدّي الماثل من إطعام الجنود، وتزويدهم بالوقود والذخيرة والإمدادات الأخرى، أكثر صعوبة مع مرور كلّ يوم. وسيحتاجون إلى كميّة أكبر من المساعدات العسكرية الغربية. فهل الجيش الأوكراني (والغرب) على مستوى هذا التحدّي؟

أخيراً، من المحتمل أن تناقش القيادة العليا الأوكرانية مع الرئيس زيلينسكي التكلفة والعائد لأيّ عمليات هجومية واسعة النطاق. بالتأكيد، إنّ استمرار الاستراتيجية الدفاعية، مع ركود العمليات الروسية، سيسمح لأوكرانيا بالحفاظ على جزء كبير من جيشها سليماً. ولكن بالنظر إلى المزايا التي يتمتّع بها الروس لجهة عدد الصواريخ التي يمتلكونها وطائرات الهجوم البرّي والمدفعية البعيدة المدى، فإنّ كلّ يوم تبقى فيه أوكرانيا في موقع دفاعي استراتيجي، ستشهد فيه مقتل أعداد متزايدة من المدنيين بتكلفة قليلة على الروس المتمترسين في مواقعهم المحصّنة.

إقرأ أيضاً: درس أوكرانيا: “انهيار حائط واشنطن”

إنّه حساب سيء بالفعل. إذا ظلّت أوكرانيا في موقف دفاعي، فسيموت مدنيّوها بأعداد كبيرة. وإذا انتقلت إلى الهجوم، فسيموت عدد كبير من جنودها. ولكن مع استقرار الروس في مواقع دفاعية طويلة المدى، فقد يكون لدى الأوكرانيين مهلة قصيرة فقط قبل أن يبني الغزاة مواقع محصّنة سيكون من المكلف على الأوكرانيين محاولة الاستيلاء عليها. سيقتضي الأمر مجازفة استراتيجية من الأوكرانيين، وفهماً واقعياً لقدرات جيشهم.

هذه هي نوعيّة القرارات التي لا يمكن أن يتّخذها إلا القادة الوطنيون (مع مشورة الجيش طبعاً) .ولكن إذا كان سجلّه حتى الآن في هذه الحرب، هو أنّه يمكن تحقيق أيّ أمر، فمن المحتمل أن يكون الرئيس زيلينسكي أفضل جهوزيّة من أيّ زعيم وطني على هذا الكوكب لاتّخاذ القرار الصحيح.

* جنرال متقاعد في الجيش الأسترالي ومؤلّف كتاب “الحرب تغيّرت: مستقبل التنافس على موقع القوة العظمى والصراع في القرن 21″

War Transformed: The Future of 21st Century Great Power Competition and Conflict

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…

إغناتيوس: قطر تقود جهود تشكيل حكومة انتقاليّة في سوريا

كشف ديفيد إغناتيوس المحلّل السياسي في صحيفة واشنطن بوست أنّ “قطر، التي كانت لفترة طويلة داعمة سرّية لهيئة تحرير الشام، تقود الجهود العربية لإنشاء حكومة…